ناقشت لجنة السياسة الخارجية المنبثقة عن الحزب الوطنى الديمقراطى فى مؤتمره الأخير الاقتراح الخاص بإنشاء «هيئة لرعاية المصريين العاملين بالخارج»، وشارك فى المناقشات كل من أحمد أبوالغيط وزير الخارجية وعائشة عبدالهادى وزيرة القوى العاملة والهجرة، والتقت الآراء حول ضرورة إقامة هذه الهيئة، وأن الأمر يتطلب إجراء دراسة وتدبير التمويل واستصدار قانون بإنشاء هذه الهيئة. ولوحظ أن وزيرة القوى العاملة والهجرة أشارت إلى أن تمويلها يمكن تدبيره عن طريق «رسوم» تدفعها الجاليات المصرية بالخارج (الشروق 1/1/2009). وأضح من سياق هذا الحديث أن العقبة الرئيسية لإدخال هذا المشروع حيز التنفيذ هو التمويل. وبطبيعة الحال فإن حجم هذا التمويل يتوقف على عنصرين، الأول هو تحديد المخاطبين به، أى المستفيدين بهذا المشروع، والثانى طبيعة الخدمات ستقدم إليهم ومداها وتكلفتها. فمن هم المستفيدون من هذا المشروع؟.. عندما اقترحت لأول مرة عام 1996، إنشاء هذه الهيئة خلال فترة عملى كمساعد وزير الخارجية للشئون القنصلية والمصريين بالخارج، كان جوهر اقتراحى ومبرر وجوده أن تكون بمثابة آلية دعم عملية للمغتربين العاملين بالخارج، على وجه التحديد، وتفعيلا لنص الفقرتين الأولى والثانية من قانون الهجرة رقم 111 لسنة 1983. وبهذا المعنى فإن المهاجر الذى حصل على جنسية دولة أخرى أصبح له وضع قانونى ونظام للرعاية وفقا لما هو مطبق فى الوطن الجديد، ومن ثم لا يدخل تحت مظلة الهيئة المقترحة. كما أن المصريين الذين يخرجون للسياحة مثلا لا يدخلون ضمن المستفيدين من هذه الهيئة، فمن شاء منهم تأمين نفسه يمكنه عمل بوليصة خاصة بذلك. كما أن أعضاء البعثات الدراسية مشمولون بنظام للرعاية خاص بهم تتولاه وزارة التعليم العالى. وحكمة قصر هذا المشروع على المغتربين العاملين بالخارج تعود إلى أن الهدف الأساسى منه هو توفير مقدار من الحماية لهم بحكم أوضاعهم وظروفهم الخاصة، ولتوفير القدرات المالية للتعامل مع مشاكلهم وقضاياهم بالخارج، ولأنه لو تم فتح الباب على مصراعيه لكل الموجودين بالخارج للاستفادة من هذا المشروع، فإن ذلك سيتطلب موارد مالية ضخمة غير متيسرة. وليس فى ذلك بدعة، فالفلبين والهند وباكستان لديهم نظم رعاية تقتصر على العاملين بالخارج وحدهم دون غيرهم. أما بشأن الأهداف أو الخدمات، وهو العنصر الثانى، فإنه بداية ليس هناك نظام رعاية كاملة أو مفتوحة فى أى دولة من دول العالم (Open ended)، ولكن هناك أولويات لهذه الرعاية لا بد من التوافق حولها، وأعتقد أن فى مقدمتها توفير الرعاية القانونية للمغترب الذى يعمل فى الخارج فى حالات إنكار العدالة بالنسبة للقضايا غير التجارية أو التعاقدية، وتوفير الإعاشة المؤقتة للمواطن وأسرته فى الحالات الطارئة الخارجة عن إرادته، ونقل جثمان المواطن غير القادر ليدفن فى أرض الوطن، تجنبا لمشهد وقوف المصريين على أبواب المساجد لجمع تبرعات لأسرة متوفى أو لدفنه، وغير ذلك من أمور يتم تحديدها بطريقة مدروسة وطبقا لمعايير وأولويات محددة، ووفقا للإمكانات المالية المتاحة لهيئة الرعاية. ومن الخدمات الأخرى المقترحة التى يمكن أن تقوم بها الهيئة إعداد برامج توعية وتأهيل المغتربين العاملين فى الخارج، وتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم وبأوضاع وقوانين الدول التى يعملون بها، ومستويات المعيشة والأسعار بها وغير ذلك من معلومات أساسية، وهو ما يعرف بالتوعية الوقائية، التى تجنبهم العديد من المشاكل الناجمة عن غياب مثل هذه المعلومات. إضافة لتقديم دعم لروابط ونوادى وتجمعات المصريين فى الخارج، لتفعيل دورها الثقافى والاجتماعى، باعتبارها تمثل الذراع الأهلى لاحتضان المغتربين. وبطبيعة الحال فإنه من الصعب تحقيق أهداف هذه الهيئة دفعة واحدة، بل يتم ذلك بشكل متدرج تبعا لتوافر الموارد المالية. وفيما يتعلق بهذه الموارد، وهى تشكل عصب هذه الهيئة، فإنه من المفضل أن تكون من مصادر متعددة، وأن يشارك فى توفيرها المغتربون والدولة معا.. ومن بينها على سبيل المثال: فرض رسم إضافى محدود على المعاملات القنصلية (دولاران مثلا)، وتخصيص نسبة مئوية من إجمالى المتحصلات القنصلية لصالح هذه الهيئة (15% مثلا)، وما يقدمه الأفراد والهيئات من تبرعات ومنح، وما تخصصه الدولة من اعتمادات سنوية لهذه الهيئة، بحكم مسئولية الدولة عن رعاية أبنائها العاملين فى الخارج. فإذا كانت الدولة تعتمد على تصدير المصريين للخارج تحت مسمى تصدير العمالة، لعجز الدولة عن استيعابهم فى هياكلها الاقتصادية الداخلية. فنتيجة لغياب وجود مشروع قومى تنموى شامل، أصبحت سياسة تصدير العمالة أحد محاور سياستها الاقتصادية والاجتماعية، لما تحققه من تحويلات وتستوعبه من وظائف. وإذا كانت الدولة تقوم بدعم صادراتها السلعية لتنافس فى أسواق التصدير الخارجية، فمن باب أولى دعم صادراتنا البشرية التى تحقق عائد يفوق الصادرات السلعية – باستثناء البترول. وهناك مورد مسكوت عنه يمكن أن يوفر جانبا هاما من تمويل هذه الهيئة، يتمثل فى تعديل أسلوب منح التأشيرات.. فمن الأمور المستغربة أن قيمة تأشيرة الدخول لمصر التى تمنحها السفارات المصرية هى قرابة 25 يورو، بينما تلك التى تمنح فى المطارات المصرية 15 يورو، رغم أن هذه الأخيرة تعتبر بالمفهوم القنصلى خدمة خاصة واستثنائية، فالأصل هو الحصول على التأشيرة من سفاراتنا وقنصلياتنا بالخارج. وتفقد خزينة الدولة نتيجة لذلك ملايين الدولارات. وتصحيح هذا الوضع يجعل التأشيرة فى المطار مرتفعة عن تلك التى تمنحها بعثاتنا الدبلوماسية، وهو الوضع المطبق فى كل دول العالم، سيوفر جانبا من التمويل الذى نبحث عنه للهيئة المقترحة. وقد يقال إن تصحيح هذا الوضع المعكوس بإضافة بضع دولارات على قيمة التأشيرة الحالية فى المطارات سيؤثر سلبا على الحركة السياحية، إلا أنه لو كان الأمر كذلك، فهو يعنى أن عناصر الجذب السياحى الأخرى والأساسية لدينا (الموقع والآثار والمناخ... إلخ) أصبحت لا وزن نسبى لها، ولم يبق سوى التأشيرة الرخيصة كعنصر جاذب للسياحة. إن معظم المغتربين العاملين فى الخارج يوجدون فى منطقة الخليج، ومجتمعاتها شبيهة بمجتمعات مغلقة على أبنائها من الناحية الاجتماعية والسياسية، تحول دون الاختلاط أسريا بالمغتربين، مما يجعلهم هامشيين فى هذه المجتمعات بالمعنى السوسيولوجى البحت، ويصعب من أوضاع معيشتهم النفسية والمعنوية. كما أن نظام الكفيل مازال قائما فى دول الخليج (ما عدا مملكة البحرين الذى تخلت عنه مؤخرا)، وما فى هذا النظام من تجاوزات ومشكلات أحيانا، الأمر الذى يجعل من إقامة هيئة لرعاية المغتربين المصريين العاملين فى الخارج فى مثل هذه المناطق وغيرها أصبح أمرا ضروريا. لقد كان الحديث حول إنشاء هذه الهيئة طوال أكثر من عقد «أشبه بحوار الطرشان».. وآن الأوان للنظر فى هذه المسألة كأحد قضايا الأمن القومى، وكآلية تشد أزر مواطنينا بالخارج، وإشعارهم بالاهتمام الحقيقى بشئونهم، مما يعمق روح الانتماء لديهم فيزداد عطاؤهم للوطن الأم.