عندما تحدثت عن أسباب استقالتى من عملى كنائب لرئيس محكمة النقض كان من بين هذه الأسباب تدخل السلطة التنفيذية فى أعمال السلطة القضائية وهو ما أقام بعض أعوان السلطة التنفيذية الدنيا من أجله على زعم أن هذا القول يسىء إلى السلطة القضائية، وكأنهم كمواطنين يعيشون فى هذا البلد لا يشعرون بذلك، وكأن هذا الكلام يقال لأول مرة رغم أنه سبق أن قيل فى مناسبات مختلفة من قضاة ومن آخرين، ومنى أنا شخصيا فى مناسبات عدة دون أن يلقى هذا الهجوم، وفى محاولة نفى هذا التدخل ممن يدافع بالباطل عن السلطة التنفيذية ويحاول الإيهام بأنه يدافع أيضا عن السلطة القضائية كان بعض رجال الإعلام يسأل من يستضيفه من القضاة إن كان أحد من المسئولين فى السلطة التنفيذية قد تحدث معه أو تدخل لديه فى قضية منظورة أمامه فتكون إجابة رجل القضاء بالنفى بالطبع. والحقيقة أنه لم يحدث أن تدخل أحد لدى أو لدى غيرى من رجال القضاء بهذه الطريقة الفجة والتى لا يمكن أن يعرض مسئول نفسه أيا كان موقعه لها، لأن القاضى عادة ما تكون له أثناء نظر الدعوى المنظورة أمامه هيبة تمنع أى إنسان مهما كان من أن يتحدث معه فى هذا الشأن، أما إن فقد هذه الهيبة فإنه يفقد بالتالى احترام الناس وتقديرهم له وبالتالى تستباح شخصيته ويمكن لأى إنسان أن يتجرأ عليه ويعرض عليه ما يريد عرضه وهنا مكمن الخطر وهو أمر نادر الحدوث. وهناك واقعة شهيرة يعلمها كبار السن من القضاة تقول إن أحد القضاة ذهب إلى وزير العدل فى وقت الواقعة وكان رجلا مرموقا ذا شخصية نافذة وقال له القاضى متفاخرا بشرفه ونزاهته إنه قد عرضت عليه رشوة كبيرة فى قضية هامة ورفضها وهنا بدلا من أن يسمع القاضى عبارات الثناء والمديح التى يتوقع سماعها من الوزير إذا بالوزير يطلب منه تقديم استقالته فنظر إليه القاضى متعجبا قائلا أهذا جزاء الأمانة؟ فرد عليه الوزير قائلا بل جزاء تصرفاتك التى أفقدتك هيبتك وجعلت الناس تتجرأ عليك وتعرض عليك رشوة ولو أن تصرفاتك كانت تضفى عليك هيبة لما تجرأ أحد على أن يعرض عليك هذا الأمر المشين. سقت هذه القصة لكى أضع الإجابة الصحيحة على لسان من يسأل هذا السؤال البسيط الذى ينم عن عدم معرفة بشخصية القاضى وما ينبغى أن يكون عليه سلوكه، وأستطيع القول إن الغالبية العظمى من القضاة فى مصر لم تعرض عليه رشاوى أو يجرؤ أحد على التدخل لديه، ولكن طريقة التدخل التى أقصدها عندما أقول إن هناك تدخلا من السلطة التنفيذية فى أعمال السلطة القضائية هى التدخل غير المحسوس والذى يعنى فى مفهومه لدى رجال القانون، اختيار قاض معين لقضية معينة أو القضاء الاستثنائى بصفة عامة، وهو قضاء كما نعرف جميعا شائع فى مصر شيوعا كبيرا فمن قضاء أمن الدولة إلى قضاء أمن دولة طوارئ إلى قضاء عسكرى إلى محاكم قيم، وهذه الأخيرة كانت يجب أن تلغى تبعا لإلغاء المدعى الاشتراكى ولكن يبدو أن الدولة يصعب عليها إلغاء نوع من القضاء الاستثنائى فصدر قرار بتصفيته بطريقة تضمن له على الأقل الاستمرار لعدة سنوات أخرى. القاضى الطبيعى طبقا لمفهوم القانون العادى هو القاضى الذى يختص بنظر الدعوى طبقا للقواعد الإجرائية العادية التى يتم وضعها قبل حدوث الواقعة التى ينظرها، وبالتالى فإن أى خروج على هذه القاعدة يعتبر تدخلا فى شئون القضاء يمكن أن يثير شبهة التأثير عليه، ونصت المادتان 217، 218 من قانون الإجراءات الجنائية على أن (يتعين الاختصاص بالمكان الذى وقعت فيه الجريمة أو الذى يقيم فيه المتهم أو الذى قبض عليه فيه وفى حالة الشروع تعتبر الجريمة أنها وقعت فى كل محل وقع فيه عمل من أعمال البدء فى التنفيذ وفى الجرائم المستمرة يعتبر مكانا للجريمة كل محل تقوم فيه حالة الاستمرار. وفى جرائم الاعتياد والجرائم المتتابعة يعتبر مكانا للجريمة كل محل يقع فيه أحد الأفعال الداخلة فيها. هذه هى القاعدة العامة الطبيعية للاختصاص بالجرائم طبقا لقانون الإجراءات الجنائية وهو القانون العام فى هذا الشأن الذى يعتبر الخروج على أحكامه فى شأن الاختصاص استثناء مكروها يثير شبهة القاضى غير الطبيعى ويعطى انطباعا بأن السلطة التنفيذية تتدخل لدى السلطة التشريعية من أجل الحصول على حكم معين يحقق مصلحتها، وهنا مكمن الخطر الذى من أجله نطالب بتطبيق مبدأ القاضى الطبيعى ومنع أى خروج على قواعد الاختصاص بحجة أهمية المسألة المعروضة ومساسها بالأمن القومى المصرى، وإعطاء رؤساء المحاكم سلطة إحالة بعض القضايا إلى بعض القضاة بالمخالفة للقاعدة السالف ذكرها هو أيضا نوع من التدخل فى شئون القضاء يجب عدم السماح به، وقد بح صوتنا فى المطالبة بذلك دون مجيب، ولذلك رأيت فى مقاطعة نقابة المحامين لمحكمة أمن الدولة التى تنظر قضية تنظيم «حزب الله» أفضل إجراء لمحاربة هذه المحاكم ولو أن هذا الإجراء كان إجراء عاما يتخذ أمام كل أنواع هذه المحاكم بحيث يصدر قرار من نقابة المحامين بمقاطعة كل أنواع هذه المحاكم بصفة عامة لأرغم ذلك المشرع على تغيير مسلكه بالنسبة لهذه المحاكم التى توسع فيها لدرجة تبدو هى الأصل وأن المحاكم العادية هى الاستثناء ولم تعد المحاكم العادية تنظر إلا القضايا قليلة الأهمية التى لا يهم الدولة الحكم الذى يصدر فيها أيا كان نوعه. عندما أصدرت نقابة المحامين قرارها بمنع الحضور أمام هذه المحكمة سعدت كثيرا ولكن ما قلل سعادتى أن هذا القرار كان بمناسبة احتجاج النقابة على تصرف المحكمة مع أحد أعضاء مجلس إدارتها وليس لكونها محكمة استثنائية وأن هذه المقاطعة متوقفة على اعتذار المحكمة عن هذا الموقف أى أن المقاطعة كانت احتجاجا على موقف المحكمة من عضو مجلس الإدارة، وآمل أن تعيد النقابة مراجعة موقفها وأن يكون ذلك الموقف عاما مع كل المحاكم الاستثنائية حتى تجد الحكومة نفسها مضطرة لإلغائها والعودة إلى القاضى الطبيعى. ما نشرته جريدة «الشروق» يوم الأربعاء «4/11/2009» فى صفحتها الرابعة بشأن الخطاب الذى أرسله وزير المالية لوزير العدل المتعلق بالقرارات التى تصدرها لجان فض المنازعات التى يعمل بها القضاة المحالون للتقاعد، أمر مشين للغاية ولا أعرف كيف قبل وزير العدل هذا الخطاب وأشر عليه مساعده بعبارة تعميمية على جميع اللجان الالتزام به بدلا من أن يرسل وزير العدل خطاب لوم وتقريع لوزير المالية على هذا الخطاب التى تضمن تعريضا وإهانة لأعضاء هذه اللجان من القضاة السابقين، وهو تدخل سافر من رجل من رجال السلطة التنفيذية فى أعمال القضاء وقد هدد المستشار المتعاقد إسماعيل بسيونى بالاستقالة من اللجان مع بعض زملائه ونحن فى انتظار وضع هذا التهديد موضع التنفيذ حتى نرغم الحكومة على احترام القضاء ونقول إننا نرفض التدخل فى أعمال القضاء أيا كان شكل هذا التدخل. التدخل إذن فى أعمال القضاء أمر واقع وملموس يعرفه الجميع والدليل عليه موجود ويوجد كل يوم والقارئ لكتاب المستشار طارق البشرى «القضاء المصرى بين الاستقلال والاحتواء» يعرف كيف يتم هذا التدخل وكيفية التغلب عليه وما لم نجد وسيلة لمنعه فإنه فى النهاية سيؤدى بسمعة ومكانة القضاء، والإساءة إلى القضاء لا تكون بالقول بإن هناك تدخلا إلا إذا كان هذا القول ينافى الواقع أما إذا كان يتفق مع الواقع فإنه يكون قولا سديدا قويا يستحق منا أن ننتبه إلى هذا الأمر الخطير، وأن نسارع إلى علاج أسبابه ومنعه حفاظا على هذه السلطة التى بيديها صنع التوازن فى المجتمع والتى إذا أصابها مرض انعكس على كل نواحى الحياة وتحولت حياتنا إلى غابة والمجتمع إلى فوضى، التعتيم على المشكلات ومحاولة ستر العيوب وتجاهل الأمراض الاجتماعية يجعلها تنتشر وتستشرى ويصعب علاجها والقضاء عليها وهو ذات ما نفعله الآن ونفعله منذ أمد بعيد ولو أننا وضعنا مقررات مؤتمر العدالة سنة 1986 التى تدارس فيها كل المشتغلين بالقانون أمراض العدالة ووصفوا الحلول لها لما كان هذا الذى نعيش فيه الآن حيث تضاعفت هذه الأمراض واستشرت وأصبح من الصعب والمكلف علاجها خاصة مع عدم وجود الرغبة من الحكومة فى ذلك لأنها المستفيد الأول من وجود هذه الأمراض.