استمرت ليلة الانتخابات عام 2008 حتى وقت متأخر فى شيكاجو. واحتفل الكثير من العاملين فى حملة باراك أوباما الذين أمضوا عامين وهم يساعدونه على الفوز، فى منتزه جرانت حتى ساعات الصباح الأولى. لكن إذا ظن كبار مساعديه أنهم سيحظون بنهار عطلة فى اليوم التالى، فقد كانوا مخطئين. فمدير المرحلة الانتقالية فى فريق أوباما، جون بوديستا، حدد موعدا لاجتماع كبار الموظفين فى اليوم التالى، صباح الأربعاء فى 5 نوفمبر الساعة 10:30. بوديستا، وهو كبير موظفى بيل كلينتون السابق، ظن أن الاجتماع سيستغرق نصف ساعة أو 45 دقيقة على الأكثر، للتكلم عن جدول المواعيد وربما سرد بعض الروايات من الحملة الانتخابية. لكن القائد العام الجديد كان لديه مخططات أخرى. بالنسبة إليه، كان يوم الأربعاء كأى يوم عمل آخر، أو بشكل أدق، اليوم الأول من رئاسته. لقد كان أوباما يخطط سرا للمرحلة الانتقالية منذ ربيع عام 2008. كان قد أطلق مشروعا انتقاليا ضخما يتضمن أكثر من 200 خبير سياسى يقدمون له المشورة. وكان الجميع يعرفون أن أوباما ينوى البدء بالعمل بسرعة بعد الانتخابات. لكنهم لم يتوقعوا أن «بسرعة» بالنسبة إلى أوباما تعنى ساعات وليس أسابيع. ذهل بوديستا عندما تحول اجتماع ال30 دقيقة إلى جلسة تخطيط دامت أربع ساعات ونصف الساعة. فى اليوم الأول، كان أوباما مستعدا لتقليص خياراته للمناصب الحكومية إلى اسمين أو ثلاثة أسماء والانتقال إلى القرارات السياسية المهمة. عادة، تبدأ الرئاسة الجديدة خلال حفل التنصيب فى يناير. لكن رئاسة باراك أوباما بدأت فى الحقيقة فى نوفمبر، قبل عام بالتحديد، عندما أصبح شريكا فى رئاسة الولاياتالمتحدة. لم يكن باستطاعة أوباما التوقيع على القوانين أو إصدار المراسيم الرئاسية بعد. ولم يكن باستطاعته وعائلته النوم فى البيت الأبيض. بعدما استقال من مجلس الشيوخ، كان قد أصبح مواطنا عاديا، رجلا لا يتمتع بأى سلطة دستورية.. لكن هذه كانت مجرد شكليات. فللمرة الأولى فى التاريخ الأمريكى المعاصر، اتخذ رئيس جديد بعض أهم قرارات عهده بشأن الاقتصاد بشكل خاص، وأيضا بشأن الطاقة والتعليم والعناية الصحية قبل توليه الحكم. إذا كان «الحكم يعنى الاختيار»، كما قال جون أف كنيدى، فإن أوباما كان يحكم منذ ذلك الحين. لقد أصر أوباما مرارا قبل حفل تنصيبه على أنه «لدينا رئيس واحد وليس رئيسين فى الوقت نفسه». وبينما كان ذلك الكلام اللائق الذى يجب أن يقال، فهو لم يكن صحيحا بالمرة. خلال الفترة الانتقالية الرئاسية بين عامى 1932 و1933، فيما كانت البنوك تنهار والبلد يغرق بشكل أعمق فأعمق فى الكساد الكبير، قال فرانكلين روزفلت أمرا مماثلا وعنى ما يقوله. فقد رفض التعاون مع الرئيس هربرت هوفر المنتهية ولايته لإنقاذ النظام المالى ولم يتخذ أى قرارا بشأن خططه لتحفيز الاقتصاد قبل حفل تنصيبه. وأمضى حتى وقتا طويلا من الفترة الانتقالية على متن يخت. فكر أوباما فى اعتماد هذه المقاربة ورفضها. وقرر العمل مع الرئيس بوش على خطة إنقاذ البنوك، ووضع البلد على مسار لإنفاق مئات المليارات من أجل تحفيز الاقتصاد، من خلال اعتماد قانون إنهاض سيوقع عليه بعيد إدلائه بقسم اليمين. أسلوب أوباما القيادى هو مزيج بين أسلوب بيل كلينتون القائم على المشاورات الواسعة النطاق وأسلوب جورج بوش القائم على القرارات السريعة. وقدرته على الدمج بين وقائع معقدة وتلخيص الجدالات المتناقضة ومن ثم الإعلان عن قرار واضح أثارت إعجاب المسئولين الأكثر خبرة حوله، بمن فيهم جو بايدن. لكن كان لوتيرة العمل السريعة هذه ثمنها. فالكثير من مشاريع البناء التى كان يفترض أن تكون جاهزة للبدء بها لم تكن جاهزة فى الحقيقة. لو تمهل أوباما، لربما تمكن من التفكير بشكل أعمق فى استحداث الوظائف، وهى المسألة التى أصبحت تشكل التحدى الاقتصادى الأكبر فى أواخر عام 2009. خلال الفترة الانتقالية، فشل المسئولون فى إدارة أوباما فى إقناع الديمقراطيين فى الكونجرس بضرورة تقديم تخفيضات ضريبية لأرباب العمل عندما يستخدمون موظفين جددا. ورفض الخبراء الاقتصاديون فى فريق عمله بشكل قاطع اعتماد برامج حكومية لتطوير سوق العمل. لذا عندما قارب معدل البطالة ال10 بالمائة لاحقا، لم يكن لديهم خطة بديلة يعتمدونها. وافق أوباما آل جور الرأى بأن اعتماد مصادر طاقة أنظف لن يعنى الكثير من دون بناء شبكة وطنية جديدة لتوزيع الكهرباء. الهدف الحقيقى، برأيه، كان يجب أن يكون جعل الشبكة أشبه بمحرك نمو ضخم، على غرار نظام الطرقات السريعة بين الولايات فى خمسينيات القرن الماضى والإنترنت فى التسعينيات من القرن الماضى. كان يحلو له الكلام عن آلاف الأميال من الخطوط و40 مليون عداد ذكى فى كل أنحاء البلاد. لكن فى أوائل يناير، عقد كبار المسئولين الانتقاليين فى فريق عمله فى واشنطن اجتماعا معه عبر هاتف الفيديو عندما كان فى شيكاجو. كانت العقبات القانونية فى وجه تحديث الشبكة الكهربائية لا تصدق. تبين أنه يجب أن يوافق 231 مشرعا مختلفا من الولايات والمقاطعات على أى تغييرات مهمة. صدم أوباما قائلا: «لقد ذهبنا إلى القمر! بإمكاننا القيام بأفضل من ذلك.. لنجعل من هذا أولوية وطنية، فهو سيؤدى إلى استحداث الكثير من الوظائف». شعرت إحدى المساعدات بأنها شهدت أول «لحظة قيادية» للرئيس المنتخب. عاد فريق العمل إلى الخبراء وكرر عليهم رسالة أوباما: بإمكاننا أن نقوم بأفضل من ذلك! لكن لم يكن بإمكانهم ذلك. ففى النهاية، تضمنت الخطة التحفيزية نحو 11 مليار دولار لتطوير شبكة ذكية لتوزيع الكهرباء، وهو مبلغ يفوق أى مبلغ سابق لكنه زهيد مقارنة بكلفة المشروع الإجمالية البالغة تريليونى دولار (والذى يفترض أن يمول معظمه القطاع الخاص). حقق أوباما نتيجة أفضل فيما يتعلق بقطاع التعليم، وليس فقط من خلال تخصيص 5 مليارات دولار للإصلاحات. عندما ذهب آرنى دانكن، الذى كان سيصبح وزيرا للتعليم، لرؤية أوباما فى شيكاجو، قال له الرئيس المنتخب إنه يعمل وفقا لمبدأين. أولا، كل السياسات التعليمية يجب أن تتمحور حول مصالح الطلبة، وليس مصالح مجموعات الضغط. بدا هذا ساذجا لكن كان له تأثيرات عملية عميقة. عند النظر إلى الأمور من هذا المنظور، أصبحت كل المسائل المثيرة للخلافات فى قطاع التعليم أكثر وضوحا. رفع أجور المعلمين؟ هذا أمر جيد للطلبة لأنه سيجتذب معلمين أفضل. عقود تحظر تقاضى المعلمين الناجحين أجرا أعلى من أصحاب الأقدمية؟ هذا أمر سيئ للطلبة. فمبدأ أوباما الثانى هو تجنب الإساءة إلى أحد. وقد قال: «لنحاور بدلا من أن نهاجم». هذه المقاربة المبنية على مبدأين أدت إلى نتائج سريعة. بحلول نهاية عام 2009، رفعت تسع ولايات الحد الأقصى المفروض على عدد المدارس التجريبية خوفا من أن تخسر تمويلها الفيدرالى. وكانت هذه بداية حقبة جديدة فى إصلاح المدارس. يقول النقاد إن استعجال أوباما لضخ الأموال فى الاقتصاد أدى إلى التبذير فى الإنفاق. لكن على خلاف الانطباع العام، فإن معظم الإنفاق التحفيزى ذهب إلى برامج جديرة بالدعم بما فيها مشاريع بنى تحتية تم إهمالها لفترة طويلة مثل الطرقات والجسور وأنظمة الصرف الصحى المحلية. كما أنها تضمنت أحد أهم التخفيضات الضريبية فى التاريخ. لكن هنا أيضا، أعاقت السذاجة السياسية أوباما. فبدلا من التكتم بشأن خياراته، قدم الرئيس المنتخب تخفيضات ضريبية ضخمة منذ البداية، معطيا النقاد الجمهوريين ما يرغبون به قبل ثلاثة أسابيع تقريبا من توليه الحكم. يقول صديقه المقرب مارتى نيسبيت: (كان عليه أن يقول: إليكم قرارى: ما من تخفيضات ضريبية، ثم كان يمكنه القول:حسنا، لقد أقنعتمونى، لنقدم تخفيضات بقيمة 280 مليار دولار». (الخطة النهائية قدمت تخفيضات بقيمة 288 مليار دولار). بهذه الطريقة، كان يمكن لأوباما أن يجعل من التخفيضات الضريبية نقطة تفاوض مفيدة، كما يقول نيسبيت، مع أنه لا يعتقد أن الجمهوريين كانوا يفاوضون بنية حسنة منذ البداية. قبل حفل التنصيب، كان لدى أوباما مهمة رئاسية إضافية: إقناع الكونجرس باعتماد الجزء الثانى من خطة إنقاذ القطاع المالى التى تقدم بها هانك بولسون والبالغة قيمتها 700 مليار دولار. وهذا يتضمن 350 مليار دولار كان أوباما بحاجة إليها لاستكمال خطة إنقاذ البنوك وإنقاذ شركات تصنيع السيارات بعد إجبارها على إعلان إفلاسها. كان أوباما يعرف أن خطط الإنقاذ لا تحظى بشعبية، لكنه كان مقتنعا بأنه من دونها، من المرجح أن تنهار البنوك. لذلك ضغط على المشرعين وكأنه أصبح الرئيس الفعلى وحصل على مبتغاه بعد عملية تصويت متقاربة. لكن أوباما لم يضغط على البنوك للحصول على شىء فى المقابل، ظنا منه أن بإمكانه القيام بذلك لاحقا. وعندما آن الأوان للقيام بذلك، كانت الضمانات الفيدرالية قد قدمت ولم يعد باستطاعة الرئيس الضغط على البنوك. حصل أوباما على تقارير استخباراتية يومية خلال الفترة الانتقالية، لكن قراراته المتعلقة بالسياسة الخارجية كانت أقل من قراراته المتعلقة بالسياسة الداخلية. فيما يتعلق بإصلاح نظام العناية الصحية، فإن عزم أوباما على مخالفة نصائح مستشاريه السياسيين والمضى قدما بطموح عام 2009 لم يتضح للكثير من العاملين إلا حتى بعد حفل التنصيب. كان قد اكتفى بالقول خلال الحملة الانتخابية إنه سيقوم بإصلاحات خلال ولايته الأولى. لكنه فى الحقيقة كان قد اتخذ قرارا نهائيا ليلة فوزه بالانتخابات. وفقا لأحد كبار المساعدين، كان قد قرر آنذاك إصلاح نظام الرعاية الصحية خلال العام الأول من ولايته، وهو عام كان قد بدأ. Newsweek