رئيس جامعة قناة السويس يُؤكد توافر الأطقم الطبية داخل عيادات كل كلية أثناء فترة الامتحانات    الجيل: الحوار الوطني يدعم مواقف مصر الثابتة تجاه القضية الفلسطينية    اللجنة العامة ل«النواب» توافق على موزانة المجلس للسنة المالية 2024 /2025    آخر تحديث.. أسعار عملات دول البريكس مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد    وزير الداخلية يستقبل نظيره الكويتي لبحث سبل تعزيز التعاون الأمني بين البلدين (صور)    أثر إيجابي على الوضع الاقتصادي.. رئيس الوزراء يشيد بانخفاض معدل المواليد    بمشاركة 500 قيادة تنفيذية لكبريات المؤسسات غدا.. انطلاق قمة مصر للأفضل تحت رعاية رئيس الوزراء لتكريم الشركات والشخصيات الأكثر تأثيرا في الاقتصاد    وزير الداخلية يستقبل نظيره الكويتي لمناقشة مستجدات القضايا الأمنية المشتركة    ذا هيل: تحالف كوريا الشمالية وروسيا قد يلحق ضررا ببايدن في الانتخابات الرئاسية    مصر تواصل تحركاتها لتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة إلى أهالي غزة    اليونيسف: تعطل توزيع المكملات الغذائية بغزة يهدد حياة أكثر من 3 آلاف طفل    أخبار الأهلي : عجائب وطرائف الدوري المصري ..الجبلاية ترد على تعيين حكمين لإدارة مباراة الحرس !    أخبار الأهلي : اجتماع طارئ ل كولر في الأهلي بعد العودة من سويسرا    تشكيل الاتحاد السكندري لمواجهة أبوقير للأسمدة في كأس مصر    رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحان الشهادة الثانوية الأزهرية القسم الأدبي بمدينة نصر    أماكن صلاة عيد الأضحى في المحافظات 2024.. الأوقاف تعلن 6 آلاف ساحة    «القومي للمرأة»: مؤشر عدد الإناث بالهيئات القضائية يقفز ل3541 في 2023    مصدر يكشف حقيقة إصابة جورج وسوف بنزيف حاد    طبعة إنجليزيّة لرواية "أَدْرَكَهّا النّسيانُ" لسناء الشّعلان (بنت نعيمة)    سوسن بدر تشكر «المتحدة» بعد تكريمها في احتفالية فيلم أم الدنيا 2    ينطلق السبت المقبل.. قصور الثقافة تعلن عروض المهرجان الختامي لفرق الأقاليم المسرحية    تعرف على سبب فشل زيجات نسرين طافش    خبيرة فلك تبشر مواليد هذه الأبراج بانفراجة كبيرة    الأفلام المصرية تحقق 999 ألف جنيه إيرادات في يوم واحد.. والسرب يحتفظ بنصيب الأسد    دعاء ذبح الأضحية كما ورد في السنة..« إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله»    تكبيرات عيد الأضحى مكتوبة.. «الإفتاء» توضح الصيغة الشرعية الصحيحة    تعرف على محظورات الحج وكفارتها كما حددها النبي (فيديو)    لمدة يومين.. صحة مطروح تطلق قافلة طبية بمنطقة فوكة بالضبعة غدا    رئيس الشعبة بالغرف التجارية: مبيعات الأدوية تتجاوز 65 مليار جنيه خلال 5 أشهر من 2024    البنك التجاري الدولي يتقدم بمستندات زيادة رأسماله ل30.431 مليار جنيه    أمينة الفتوى: «بلاش نحكي مشاكلنا الزوجية للناس والأهل علشان متكبرش»    «كوني قدوة».. ندوة تثقيفية عن دور المرأة في المجتمع بالشرقية    علاء نبيل يعدد مزايا مشروع تطوير مدربي المنتخبات    «التنظيم والإدارة» يتيح الاستعلام عن نتيجة التظلم للمتقدمين لمسابقة معلم مساعد    مفاجأة.. مدرب ليفربول يحسم مستقبل محمد صلاح    إصابة سائق إثر حادث انقلاب سيارته فى حلوان    خاص رد قاطع من نادي الوكرة على مفاوضات ضم ديانج من الأهلي    توني كروس يصل ل300 انتصار مع الريال بعد التتويج بدوري أبطال أوروبا    طرق حديثة وحماية من السوشيال.. أحمد حلمى يتحدث عن طريقة تربية أولاده (فيديو)    في دقيقة واحدة.. طريقة تحضير كيكة المج في الميكروويف    محمد الشيبي.. هل يصبح عنوانًا لأزمة الرياضة في مصر؟    تأجيل محاكمة المتهمين بقتل مسن في روض الفرج    تأجيل إعادة إجراءات محاكمة متهمين ب "جماعة حازمون الإرهابية" ل 2 سبتمبر    الاحتلال الإسرائيلي يواصل قصفه قرى وبلدات جنوبي لبنان    برلماني أيرلندي ينفعل بسبب سياسة نتنياهو في حرب غزة (فيديو)    العمل: 3537 فُرصة عمل جديدة في 48 شركة خاصة تنتظر الشباب    المؤتمر: تحويل الدعم العيني لنقدي خطوة تحقق العدالة الاجتماعية    مفتي الجمهورية: يجوز للمقيمين في الخارج ذبح الأضحية داخل مصر    توجيه جديد لوزير التعليم العالي بشأن الجامعات التكنولوجية    وزير الإسكان ومحافظ الإسكندرية يتفقدان مشروع إنشاء محور عمر سليمان    وزير المالية: مشكلة الاقتصاد الوطني هي تكلفة التمويل داخل وخارج مصر    تحرير 139 مخالفة للمحلات غير الملتزمة بقرار الغلق لترشيد الكهرباء    في زيارة أخوية.. أمير قطر يصل الإمارات    توريد 125 طن قمح لمطحن الطارق بجنوب سيناء    غرفة الرعاية الصحية: القطاع الخاص يشارك في صياغة قانون المنشآت    محافظ كفر الشيخ يعلن أوائل الشهادة الإعدادية    تحرير أكثر من 300 محضر لمخالفات في الأسواق والمخابز خلال حملات تموينية في بني سويف    لتحسين أداء الطلاب.. ماذا قال وزير التعليم عن الثانوية العامة الجديدة؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملك يموت مللا.. عن مستقبل يظله ألفا زيرو: الشطرنج ليس مثل كرة القدم
نشر في الشروق الجديد يوم 18 - 08 - 2020

تتساوى الرؤوس 90 دقيقة داخل المستطيل الأخضر، فتهزم البرازيل ألمانيا، وتناطح المغرب بريطانيا. أما في الشطرنج، فيلاحظ المؤرخون توازيا بين التفوق على الرقعة، والغلبة على أرض الواقع. تصعد إسبانيا كقوة استعمارية عظمى في القرن السادس عشر، ويتجه أسطولها لاستكشاف العالم الجديد، ويصعد في ذات الفترة الإسباني روي لوبيز ملكا للعبة بلا منازع. ينطلق عصر النهضة في إيطاليا، فيتصدر الشطرنج لاعبها العبقري دومينيكو بونزاني. تزدهر الفلسفة الإنسانية في فرنسا وتمهد الطريق لثورتها، فينتقل الزمام إلى فرانسوا فيليدور.
تتنازع بريطانيا وفرنسا عرش العالم واللعبة لفترة، إلى أن يحتكر الاتحاد السوفيتي بطولات الشطرنج كلها لسنوات طويلة، ويروج انتصاراته المتتالية عنوانا لتفوقه العقلي على الغرب. تنجح أمريكا أخيرا في رد الصاع صاعين، ويستحوذ نجمها بوبي فيشر على لقب بطل العالم بعد هزيمة ساحقة لمنافسه الروسي في 1972، وكأن المباراة نبوءة بالنتيجة الحتمية القريبة للحرب الباردة.
لهذا كله، اكتسب باسم سمير مكانة خاصة في تاريخ اللعبة. نوفمبر 2017، تصدرت صورة باسم الصفحات الأولى لكل مواقع الشطرنج الكبرى، كأول لاعب مصري، وأول عربي، وأول أفريقي ينضم لما يسمى مجموعة "الأساتذة الخارقين" Super Grandmasters، التي تضم عددا محدودا من أبطال اللعبة يحتلون قمة تصنيف الاتحاد الدولي للشطرنج من حول العالم.
أخيرا، صار لنا مقعد بين الكبار!
أقابل باسم للمرة الأولى في أحد كافيهات المعادي قبل أشهر قليلة من العزل الإجباري بسبب جائحة الكورونا. يتحدث بتواضع جم ل يشي بمكانته العالمية وشعبيته الطاغية بين محبي اللعبة. أسأله عن تحضيراته مع المنتخب لأوليمبياد الشطرنج في روسيا 2020، فيقول: "إمكانيات الاتحاد لا تسمح باستقدام المدربين أو إقامة المعسكرات التدريبية". أسأله عن خطوته القادمة بعد أن صار أول مصري يصل إلى قائمة أقوى خمسين لاعب حول العالم، فيرد: "حلمي الآن هو الوصول إلى قائمة أقوى عشرين لاعب في العالم".
لكن تحديات اليوم ليست كالأمس، ففي ذات العام الذي بلغت فيه شهرة باسم الآفاق، تحديدا في ديسمبر 2017، تغير الشطرنج إلى الأبد. أعلن علماء جوجل عن سيد جديد للعبة، لايرفع علما، ولايعرف حدود الجغرافيا السياسية، ولايعبأ بتصنيف- الكمبيوتر الخارق "ألفا زيرو".
ديمقراطية الحواسيب
تسقط رقعة الشطرنج في منتصف المباراة، وتتناثر القطع أرضا.
كان باسم في الرابعة من عمره، يلعب مع والده الذي علمه قواعد اللعبة توا. اقترح الأب، وهو طبيب قلب ومحب للشطرنج، أن يبدأ مباراة جديدة، لكن باسم أخبره أنه يتذكر مكان كل قطعة على الرقعة. "أظن أن أبي لم يكن يتذكر مكان القطع بالضبط، فتركني أضعها كيفما اتفق، وأكمل المباراة على كل حال"، يروي باسم.
بعد عدة أيام، جرب الأب أن يُسقط الرقعة عن عمد، ليختبر ذاكرة ابنه، الذي سرعان ما أعاد القطع لأماكنها الصحيحة. جربها ثانية، وثالثة، ورابعة، وخامسة، حتى تيقن من أن له ذاكرة فوتوغرافية.
كرس الأب ما استطاع من وقت ومال لتدريب ابنه على اللعبة. يكبر باسم، فتزداد موهبته الفطرية سطوعا. يشارك في المباريات والبطولات المحلية، فيتغلب بسهولة مذهلة على من يفوقون عمره بأضعاف. عام 1997، كان في السابعة من من عمره حين اصطحبه والده إلى فرنسا ليشارك في أول بطولاته دولية. وفي نفس العام، جرت المباراة الأشهر في تاريخ اللعبة بين بطل العالم وقتها، جاري كاسباروف أمام الكمبيوتر ديب بلو.
كان عمالقة الشطرنج منذ منتصف القرن العشرين يشاركون في مباريات استعراضية أمام الحواسيب البدائية، بهدف إظهار تفوق الذكاء البشري على الآلة. الجيل الأول من برمجيات الشطرنج كان يفهم القواعد الرئيسية للعبة، مثل الحركات القانونية لكل قطعة، وعدد المربعات، إلى غير ذلك. اعتمدت البرمجيات على قياس أهمية كل قطعة من خلال إعطائها قيمة رقمية، فالبيدق يساوي نقطة واحدة، والفيل يساوي 3 نقاط، والوزير 9 نقاط، وهكذا. المنطق يقول أنه كلما تفوق جيش على الآخر في عدد النقاط، كلما زادت فرص انتصاره. هذا بالطبع تبسيط مخل، فالكمبيوتر هنا غير قادر على فهم الحيل المختلفة، وأساليب اللعب المعتمدة على التضحية بقطعة أو اثنتين في سبيل الانتصار سريعا بالكش مات.
تسابق العلماء في إمداد الكمبيوتر بمبادئ أكثر عمقا، مثل أهمية السيطرة على منتصف الرقعة كمفتاح للنصر ووضع سلامة الملك فوق كل اعتبار، وتُوجت جهودهم أخيرا في المواجهة الشهيرة مع كاسباروف، والتي تكونت من 6 مباريات. تعادل كاسباروف في ثلاثة. وانتصر في واحدة، وخسر في اثنتين.
انتصار "ديب بلو" لم يكن يعني أن الكمبيوتر صار سيد اللعبة بلا منازع. سادت الشكوك أن المبرمجين كانوا يساعدون ديب بلو في الخفاء خلال سير المباراة، فالنصر كان يعني ارتفاعا مذهلا في أسهم الشركة المصنعة آي بي إم IBM. الثابت أيضا أنهم توقعوا بعض حيل كاسباروف وأمدوا الكمبيوتر بقاعدة بيانات ضخمة مصممة لمواجهة هذه الحيل تحديدا. الحدس والتخطيط البشري إذا كان عنصرا هاما في هذا النصر.
أما في مصر، كان باسم مستمرا في حصد الألقاب الدولية، رغم كل ما يواجهه. الإمكانيات ضعيفة. البرمجيات المتاحة لاتصلح سوى لتدريب الهواة. الكتب غير متوافرة. الأخبار عن مباريات المنافسين نادرة، وقد يستغرق الأمر شهورا للحصول على تفاصيل مباراة هامة جرت في النصف الآخر من العالم. أما المدربون، فيقول عنهم باسم: "كانوا يخبرونني أني سأنجح لكني لن أحصل أبدا علي لقب أستاذ كبير Grandmaste، فلايوجد لاعب في تاريخ مصر وصل إلى اللقب من قبل. لكني حصلت عليه. ثم قالوا لي، ستنجح، لكن لن تصل أبدا إلى قائمة أقوى 100 لاعب في العالم.. لم يكونوا مؤمنين بقدرة مصري على تخطي هذه الحواجز".
عام 2003، عاود كاسباروف اللعب مرة ثانية أمام كمبيوتر أكثر تطورا، وهو X3D Fritz، ونجح في التعادل معه، ليعلن أن صراع الإنسان والآلة لم يُحسم بعد. وفي العام نفسه، استغنى باسم عن التدريب مع مدربين مصريين، بعد أن تفوق عليهم جميعا، "وصرت أعتمد على نفسي والكمبيوتر"، الذي صار منذ منتصف الألفينات جزء أساسيا في إعداد وتدريب اللاعبين.
تحدث الخبراء وقتها بتفاؤل عن بداية عصر "ديمقراطية الشطرنج"، حيث لم تعد فرص التفوق مرهونة بمكان مولدك. بسبب الكمبيوتر، الساحة مفتوحة للجميع، والحيل المكنونة في الكتب الروسية صارت متاحة للكل،، وأبطال اللعبة الجدد يظهرون من كل حدب وصوب.
اشتهرت في تلك الفترة العديد من البرمجيات المتطورة التي تختلف في أسلوب اللعب. فريتز Fritz يهاجم بضراوة حد التهور. جونيور Junior يضحي ببعض القطع الصغرى في سبيل تعقيد الموقف حتى لو لم يكن متأكدا تماما من أن هذا سيحسم المباراة لصالحه. شردر Shredder محافظ ويوازن بين الهجوم والدفاع. لكل برنامج أسلوبه المتأثر بقاعدة البيانات التي يستند إليها، وأسلوب مبرمجيه في "إفهامه" اللعبة.
أما ألفا زيرو، فأدار ظهره للبشر أجمعين.
الفا اوميجا
على خلاف سابقيه، لم يعتمد ألفا زيرو على قواعد بيانات لمباريات سابقة، أو على أي تدخل بشري في إمداده باستراتيجيات وتكتيكات.
بنى علماء جوجل "ألفا" بتقنية الشبكة العصبية Neural Network، والتي تعني أن الكمبيوتر يشرع في ملاحظة الأنماط المتكررة، ومحاولة توقع المستقبل بناء على الماضي. تقارن الشبكة توقعاتها بالنتائج الفعلية، فتتعلم من أخطائها، وتزداد قدرتها على التنبؤ بالصواب.
أمد المبرمجون ألفا بالقواعد الأساسية للعبة الشطرنج دون أي محاولة منهم لتعليمه أفضلية أسلوب لعب على الآخر، وتركوه يعلم نفسه بنفسه، ويحرك الجيشان الأبيض والأسود محاولا استكشاف الأسلوب الأمثل.
في البداية، شرع ألفا في تحريك القطع عشوائيا دون هدف واضح، ثم بدأ يدرك أن هناك نقلات تزيد من احتمالات المكسب أو تقلل احتمالات الخسارة. خلال 9 ساعات من التدريب، لعب ألفا زيرو مع نفسه 19 مليونا و600 ألف مباراة، وصل خلالها لكل الافتتاحيات والاستراتيجيات الرئيسية التي توصل إليها البشر على مدار مئات السنوات، وطور أسلوبه الخاص، أسلوب وصفه العلماء بأنه أشبه ب"كائن فضائي يمارس اللعبة من بعد آخر". يكسر الأعراف، ويلعب على جبهتي الرقعة في آن واحد. يفاجئ الجميع بتضحيات لاتخطر على البال. يأخذ قرارات يعجز عن فهمها البشر، لكنها دائما ماتثبت صحتها في النهاية .انهزم ألفا زيرو مرات نادرة أمام بعض برمجيات الكمبيوتر الأخرى، وكل هزيمة تغذي شبكته العصبية بمعلومات تزيد من قوتها، لكنه لم ينهزم أبدا أمام لاعب من لحم ودم.
يتساءل البعض عن أثر تطور الذكاء الاصطناعي على المستقبل. ترى، كيف سيغير هذا التطور تكتيكات الحرب؟ تداول أسهم البورصة؟ خطط كرة القدم؟ تربية الأطفال؟ استكشاف الفضاء؟ اختيار شريك الحياة؟ مونتاج الأفلام؟ لايسألون السؤال بذات الصيغة فيما يتعلق بالشطرنج. المستقبل هو الآن. وصلنا إلى محطة النهاية، وابتكرنا الفا اوميجا او سيد الرقعة. كامل الحكمة، يوقن الجميع بصحة نقلاته وإن لم يفهموها. كلي القدرة. لايتعب، لايخطئ، لايشك.
فماذا بعد؟
نهاية اليوتوبيا
نوفمبر 2018، ظهر تأثير صعود مباريات ألفا وغيرها من الكمبيوترات الخارقة جليا على اللعبة. تتجه أنظار العالم إلى لندن، حيث يتبارز اثنان من أمهر لاعبي الشطرنج في التاريخ على لقب بطل العالم: الأمريكي فابيانو كروانا والنرويجي ماجنس كارلسن.
سرعان مايتحول الحماس والترقب العالمي إلى تململ مكتوم. انتهت المباراة الأولى بالتعادل، ثم الثانية بالتعادل، كذلك انتهت الثالثة والرابعة فالخامسة، حتى الثانية عشر. ينتصر كارلسون في النهاية، ويعلق في مؤتمر صحفي: "لم أكن أواجه كروانا ومساعديه فقط، بل الكمبيوتر الخاص به أيضا".
في الماضي، كانت المباراة الواحدة تمتد أحيانا ليومين، وفي الليلة الفاصلة بينهما، يجتمع كل لاعب مع مساعديه ومدربيه. يتوقعون خطة الخصم، ويعدون الخطط المناسبة لكل الاحتمالات. يقضون الليل يتناقشون ويتجادلون حول أفضلية هذه النقلة أو تلك.
أما اليوم، فالتلفزيونات تنقل المباريات على الهواء، وجانب الرقعة، يظهر تحليل الكمبيوترات الخارقة القادرة في جزء من الثانية على الإتيان بالخبر اليقين، وذكر قائمة الحركات المثلى في كل موقف، واحتمالية المكسب والخسارة بالنسب المئوية الدقيقة.
تحولت المباريات الهامة إلى منافسات في الحفظ والتحضير. التعادل صار النتيجة المتوقعة، وسات الرتابة. ولت أيام الشطرنج الرومانسي المبني على المخاطرة والإبهار، ولم يعد في الإمكان أبدع مما كان، حتى أن بعض أبطال اللعبة اقترحوا الاستعانة بألفا زيرو لابتكار أشكال مختلفة من الشطرنج أو تعديل قواعده، علها تعيد الحيوية المفقودة.
لا يتشارك باسم مع هؤلاء نظرتهم التشاؤمية إلى الذكاء الاصطناعي. يقول أن الشطرنج التقليدي مازال أمامه سنوات طويلة قبل أن يجف نبع الابتكارات البشرية. يضيف أن الذكاء الاصطناعي زاد من اهتمام الناس باللعبة، وتعميق فهمهم له، فالكمبيوتر الخارق يعطي الجميع القدرة على معرفة النقلة الصحيحة. لافرق بين لاعب مبتدئ وبطل عالم، وهو مايساعده وغيره على التدريب دون ميزانية ضخمة.
لكن باسم يعلم أيضا أن هذه المساواة نظرية. الكمبيوتر الذي كان رفيقه في رحلة الصعود، صار اليوم عقبة كبرى. البرمجيات المعقدة والمتطورة تحتاج إلى أجهزة بأسعار فلكية كي تعمل بكفاءة. أبطال العالم يملكون أجهزة يتجاوز سعرها عشرات الآلاف من الدولارات، أما باسم، فلايملك سوى لابتوب متواضع اشتراه من مدخراته الخاصة، وبالتالي "فقد يستغرق الكمبيوتر الذي أستخدمه ساعة كاملة لتحليل موقف ما أو اقتراح نقلة مناسبة، مقارنة بالمنافسين الذين تصل أجهزتهم لنفس النتيجة في دقيقة أو أقل".
يقول باسم إنه يعلم نقطة ضعفه جيدا: "اعتمدت في لعبي بالسنوات السابقة على افتتاحية هجومية ودفاعية ثابتة". في الماضي، كان اللاعب المحترف يستطيع أن يستخدم حيلة أو نقلة جديدة في عشرات المباريات قبل أن ينتبه إليها الخصوم ويحاولون البحث عن الرد المناسب. اليوم، اشتراك زهيد يكفي للحصول على قواعد بيانات تحوي كل المباريات الهامة منذ مائة سنة، والإطلاع على كل مباريات الخصم. مع كل نقلة جديدة أو فكرة غير تقليدية، يتولى الكمبيوتر تحليلها في ثوان، وتحضير الرد الأمثل.
إضافة لكل ذلك، لايعتبر باسم التكنولوجيا هي العقبة الوحيدة أمام حلم الوصول إلى قائمة العشرين، فالتطور خلال السنوات الماضية لم يكن تقنيا فقط، بل بشريا أيضا. أبطال اللعبة اليوم، يسافرون إلى مبارياتهم مصحوبين بأطباء نفسيين لإعدادهم الذهني، ومدربين وأطباء يراقبون كل شاردة تتغير في جسدهم، وطباخين يحرصون على تناوله الطعام المناسب. يُعاملون في بلادهم كنجوم، ويحصلون على عقود رعاية بالملايين.
أما باسم، فيسافر إلى مبارياته وحيدا، ويرجع دون احتفاء. تخرج باسم من كلية الطب، مستكملا التقليد العائلي، لكنه تفرغ للشطرنج ولم يمارس المهنة. يكسب قوته من الاحتراف مع فرق الشطرنج بالسويد وألمانيا وغيرها من الفرق الأوروبية، ويلعب في مصر مع نادي شركة الشرقية للدخان كمصدر إضافي للدخل.
أبطال العالم ينتقون البطولات التي يتنافسون فيها، حتى يتجنبوا خسارة غير متوقعة تقلل من تصنيفهم، وهي رفاهية مادية لايملكها باسم، "وحين يكون الانتصار هو مصدر الدخل الوحيد، يؤثر الضغط النفسي بالطبع على التركيز والأداء".
ينشغل باسم بالمشاركة بطولات مختلفة أونلاين، ومحاولة تحسين تحضيراته، بعد أن أجلت الكورونا الأوليمبياد إلى 2021. وتتناثر الأخبار عن أن حكومات روسيا والنرويج يتيحون لمنتخباتهم ولوجا خاصا لكمبيوترات خارقة تساعدهم في تحضيراتهم.
الشطرنج ليس مثل كرة القدم!
ليست هي اللعبة الشعبية الأولى، ولن ينال أبطالها أبدا ذات الشهرة والثروة، لكن بعض الدول مازالت واعية لأهميتها الاستثنائية، وضرورة أن تحجز لنفسها مكانا في عصر ألفا زيرو. روسيا مازالت تنظر للشطرنج كجزء من قوتها الناعمة، حتى أن الكرملين تدخل بخشونة في الانتخابات الماضية للاتحاد الدولي للشطرنج كى يرجح كفة مرشحها. الهند تعامل بطلها السابق للعالم فيشوانثان أناند كبطل قومي، مما ساهم في نشأة جيل جديد من اللاعبين العباقرة تحت الخامسة عشر سيحصدون قريبا جدا بطولات الكبار. عدد متزايد من مدارس أمريكا وبلغاريا وجنوب أفريقيا تضيف الشطرنج في مناهجها.
قد يجبر ألفا زيرو البشر على تغيير قواعد اللعبة. قد يقطع الشك الرومانسي باليقين البارد. قد يمنح أضعف لاعب معرفة كانت ذات يوم حصرية لأبطال العالم. قد يمنح أفقر شعوب الأرض وأكثرها ثراء أفكاره بالتساوي. ذلك كله لايعد بيوتوبيا تكنوقراطية يتساوى فيها الجميع. العكس أقرب للصواب. الهوة تزداد، والحواجز القديمة تعلو ارتفاعا، وماكان يصلح بالأمس لتخطيها، صار اليوم بلاجدوى، أو كما يقول باسم: "في الماضي كنت أشعر أنني أواجه لاعبا أضعف أو أقوى، واليوم أشعر أني أواجه دولا بأكملها".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.