الأخبار الحقيقية فى مصر مسكوت عليها، أما الفرقعات فهى تتردد فى فضائها طول الوقت. فالصحف المصرية تشغل الرأى العام فى البلد هذه الأيام بموضوعين، الأول يتعلق بمستقبل نظام الرئيس مبارك الذى تنتهى ولايته الخامسة بعد عامين. والثانى يركز على الحاصل فى قيادة الإخوان المسلمين، التى أعلن مرشدها العام أنه سيتخلى عن منصبه فى أول يناير المقبل. الموضوع الأول دفع الصحف إلى التطرق لأمور كثيرة، كان توريث السلطة فى المقدمة منها، وهو ما اختلفت بشأنه الآراء بين مؤيدين للتوريث ومعارضين له، وبين قائلين بأن التوريث غير وارد فى الأجل المنظور، لأن الرئيس مبارك سوف يرشح نفسه لولاية سادسة، بالتوازى مع ذلك، أثار الأستاذ محمد حسنين هيكل جدلا بشأن مقترحاته تشكيل حكومة انتقالية ومجلس أمناء للدستور، إذ رحب بها بعض المستقلين فى حين هاجمها المسئولون فى الصحف القومية ولايزالون يتجادلون بشأنها. فى موضوع الإخوان ركزت الصحف على ما قيل عن استقالة المرشد الأستاذ محمد عاكف بسبب أزمة نشأت فى مكتب الإرشاد. تعلقت برفض طلب المرشد تصعيد الدكتور عصام العريان لضمه إلى عضوية المكتب. من ثم شغلت الصحف بالحديث عن خلفيات التجاذب الحاصل بين المحافظين والإصلاحين فى قيادة الجماعة. وتحدث بعض قادة الإخوان فنفوا استقالة المرشد الذى نقلت بعض الصحف على لسانه قوله إنه انسحب ولم يستقل. وظلت التساؤلات مثارة حول الصلاحيات التى أعطيت لنائب المرشد. فقال قائل إن الدكتور محمد حبيب رأس اجتماع مكتب الإرشاد، وقائل بأن ذلك لم يحدث. الشاهد أن وسائل الإعلام تنافست على تغطية الموضوعين، رغم أن الأول يناقش قضية عائلية لا تخرج عن حدود الأب والابن، يفترض أن تحسم بعد عامين. أما الثانى فهو بمثابة نميمة سياسية تخص الأمور الداخلية لحركة الإخوان، التى لا تعنى الكثير عند الناس ولا علاقة لها بأمورهم الحياتية. إلى جانب هذين الموضوعين فاللغط مستمر والجدل محتدم فى وسائل الإعلام حول عناوين أخرى فرعية، مثل قضية منع النقاب، وشائعات الشذوذ الجنسى فى الوسط الفنى، والاشتباك الحاصل بين أحمد شوبير ومرتضى منصور حول أمور سخيفة تتعلق بحسابات الرجلين، ثم مباراة كرة القدم المنتظرة بين المنتخب المصرى والفريق الجزائرى، التى حولها التراشق والطيش الإعلاميين إلى حرب بين جماهير البلدين، وتنافست بعض الصحف فى مصر على تقديم مبادرات إطفائها! من يطل على الصورة من بعيد يخيل إليه أن الإعلاميين والمثقفين المصريين اجتمعوا فى مقهى كبير، عقدوا فيه «مكلمة» حفلت بالثرثرة والنميمة والمساجلات التى أرادوا بها قتل الوقت، وبينما هم يتمددون مسترخين، فوجئوا بكارثة تصادم القطارين قرب القاهرة، ومقتل 40 شخصا وإصابة أكثر من 120 آخرين فنفضوا ما بين أيديهم وركضوا يتابعون الحدث. الجدل الدائر الذى بات يملأ صفحات الصحف والبرامج الحوارية على شاشات التليفزيون، تكشف عن الفرق بين الفرقعة والخبر، إذ الأولى تمثل طنينا يخدر الناس ويغيبهم، فى حين أن الخبر وحده الذى يوقظهم ويعبر عن صميم حياتهم. حادث الصدام بين القطارين تعبير عن مصر الحقيقية، وكل ذلك الجدل الآخر يشغلنا بمصر الوهمية والافتراضية، ذلك أن الحادث يجسد الانهيار الذى بلغته الخدمات فى البلد، الذى أصبح ضحية العجز وفساد الإدارة وترهلها. وهذا الانهيار غدا عنوانا للمرحلة التى صار تراكم أكوام الزبالة فى قلب العاصمة رمزا لها، ولا أعرف إن كان ذلك الحادث المروع سيدعونا إلى الإفاقة والانتباه إلى مصر الحقيقية، أم أنه سيمر دون أى صدى مثلما مر حادث عبارة الموت التى غرق فيها 1300 مواطن، لنعود إلى مسيرتنا القديمة مؤثرين التعلق بالفرقعات وبمصر الوهمية.