منذ أن تقلد الرئيس أوباما مهام منصبه، وهو يكرر التزامه بالتواصل مع المجتمعات الإسلامية، وتغيير تصورات المسلمين السلبية تجاه الولاياتالمتحدة. وشدد الرئيس الجديد المرة تلو الأخرى على أن «الولاياتالمتحدة ليست فى حرب مع الإسلام ولن تكون كذلك أبدا». وفى خطابه أمام البرلمان التركى فى أبريل الماضى، أكد أوباما أن الأمريكيين لن ينظروا إلى العالم الإسلامى بعد اليوم من عدسة الإرهاب. وقال لنواب البرلمان التركى الذين كانوا فى حالة انبهار تامة به: «أريد أيضا أن أوضح أن علاقة أمريكا بالمجتمعات الإسلامية، وبالعالم الإسلامى، لا ولن يمكن أن تكون مرتكزة على مجرد مقاومة الإرهاب.. نحن نسعى لتحقيق تواصل أكبر يقوم على المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل. وشدد أوباما على التزامه بهذين المبدأين الأساسيين فى خطابه الإستراتيجى فى القاهرة فى شهر يونيو. وبالرغم من أن الخطاب كان مجرد بيان يعبر عن النوايا، فإنه بعث برسالة واضحة إلى العالم الإسلامى: «لقد جئت إلى القاهرة للبحث عن بداية جديدة بين الولاياتالمتحدة والمسلمين فى جميع أنحاء العالم، استنادا إلى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل، وهى بداية مبنية على أساس أن أمريكا والإسلام لا يتعارضان ولا داعى أبدا للتنافس فيما بينهما، بل إن بينهما قواسم ومبادئ مشتركة يلتقيان عبرها، ألا وهى مبادئ العدالة والتقدم والتسامح وكرامة كل البشر». ويستحق الرئيس أوباما الثناء لأنه قدّم غصن الزيتون إلى خصوم الولاياتالمتحدة، بما فيهم إيران، وكذلك بسبب شجاعته الأدبية ورؤيته، اللتين عبرتا عن الرغبة فى بداية جديدة مع المسلمين، بعد سنوات من التجاهل والعداء. ففى فترة حكم سلفه، وصلت العلاقات بين العالم الإسلامى والولاياتالمتحدة إلى الدرك الأسفل، حيث كان للمتخصصين فى هندسة المجتمعات وخبراء الإرهاب اليد العليا فى داخل فريق السياسة الخارجية التابع لبوش وتشينى. وبدلا من أن يتبنى هؤلاء نهجا بنّاء يقوم على التمييز بين الأوجه المختلفة للإسلام السياسى اتبعوا نهجا قاصرا يضع جميع الإسلاميين فى سلة واحدة. ونظر هؤلاء إلى الوراء وصنفوا كلا من التيار الرئيسى من الإسلاميين المعتدلين، والإسلاميين المسلحين، من خلال منظور القاعدة. ولم يكتف منظرو وخبراء الإرهاب سواء عن عمد أو لا بالموافقة على الأجندة الرسمية عبر تصوير الإسلاموية باعتبارها نزعة جهادية، ومجموعة متجاوزة للحدود وعابرة للقومية فحسب، بل إنهم رأوا فيها أيضا تهديدا قاتلا للغرب، وأيديولوجيا معادية واستبدادية، تكرس نفسها لأجل إلحاق التدمير العشوائى وإخضاع العالم. كما أن آخرين دافعوا عن شن حرب شاملة ضد كل أوجه الإسلام السياسى. واستنادا إلى هذا الإجماع بين الخبراء والمهندسين الاجتماعيين المفتقرين إلى المعرفة، صعّد الرئيس بوش من لهجة الخطاب عبر الخلط بين التيار الرئيسى من المسلمين المعتدلين وبين الإسلاميين المتشددين تحت تصنيف «الفاشية الإسلامية». ودعا بوش الأمريكيين إلى الاستعداد لشن حرب عالمية ضد الإرهاب، هى «النداء المحتوم لجيلنا». وقال بوش إن هذه الحرب سوف تستأصل تهديد إرهاب الإسلام الراديكالى (وهو لفظ آخر فضفاض وغير متماسك) وتستهدف الدول المارقة التى ترعى الإرهاب أو تقدم المأوى للإرهابيين. وعن طريق الخطاب الأيديولوجى الساحق، مهدت حملة بوش وتشينى الطريق إلى غزو واحتلال العراق بقيادة الولاياتالمتحدة، وهو ما كلف الكثير من الأرواح والأموال، وأضر بالمكانة الأخلاقية للولايات المتحدة فى العالم. وتشير كل الدراسات، أن توسيع نطاق الحرب على الإرهاب إلى خارج أفغانستان أدى إلى نفور العالم الإسلامى، وقدم دافعا أيديولوجيا للقاعدة والجماعات الجهادية فى العالم. فقد أصبح هؤلاء يصورون حربهم ضد الولاياتالمتحدة باعتبارها دفاعا عن الأمة الإسلامية فى العالم أجمع. ومن ثم فإن الحرب على الإرهاب أصبحت فى أعين الكثير من المسلمين موجهة ضد دينهم، وهادفة إلى إخضاع بلادهم. ولا يكاد يكون بين هؤلاء من يصدق خطاب واشنطن فيما يخص تعزيز الديمقراطية والحرية فى الشرق الأوسط. وبدلا من ذلك، فإنهم يرون فى هذا الخطاب قناعا يهدف إلى الإبقاء على الهيمنة الأمريكية. وبالنظر إلى هذا الوضع المتذبذب والاستقطابى، فإن الخطاب الجديد الذى يطرحه أوباما حول التواصل والتعايش المشترك والمصالحة بين العالم الإسلامى والغرب المسيحى يبعث على الارتياح. لقد نقل بالفعل الخطاب والحوار من المواجهة إلى الجدل الساخن والتفاعل. غير أن السؤال الأساسى الذى يتعين على فريق السياسة الخارجية لدى أوباما أن يجيب عنه هو: «ماذا يعنى الرئيس بكلمة «التواصل»؟.. هل يرغب فى تقييم السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العالم الإسلامى، وخصوصا العلاقات بين الولاياتالمتحدة والعملاء المحليين الاستبداديين؟.. هل يرغب فى إعادة النظر بطريقة بنيوية فى النهج الأمريكى التقليدى نحو الشرق الأوسط الذى يرى المنطقة من خلال منظور النفط وإسرائيل والإرهاب؟.. هل يرغب فى أن يصغى إلى آمال ومخاوف وطموحات الشباب المسلم، ويتحمل مخاطرة المساعدة فى إحداث تغيير حقيقى فى مجتمعاتهم؟.. هل يرغب فى استثمار رأس مال سياسى ثمين فى تحرير الرئاسة من براثن جماعات الضغط والمصالح التى تضيق الخناق على سياسة الولاياتالمتحدة تجاه الشرق الأوسط؟.. هل يرغب فى بدء عملية إعادة هيكلة لعلاقات الولاياتالمتحدة مع العالم الإسلامى على أسس جديدة، بعيدا عن السيطرة والهيمنة؟.. بمعنى آخر، ما هى تكاليف ومتطلبات التواصل؟.. ماذا تتضمن هذه التكاليف والمتطلبات؟ هل سيترجم الرئيس أوباما هذا الخطاب النبيل إلى أفعال ملموسة؟ ومن حسن حظ فريق الرئيس والقراء بشكل عام أنه قد ظهر عدد من الكتب النقدية التي تتناول مسألة التواصل مع العالم الإسلامى، ووتوضح ما الذى يجب أن تفعله أمريكا للخروج من المأزق الراهن فى هذا الجزء من العالم. ولعل من أكثر الكتب عمقا من الناحية الإمبريقية والتحليلية كتاب Engaging the Muslim World للباحث والمعلق جوان كول. ويطرح كول وهو من كبار المؤرخين، وصاحب مدونة Informed Comment المقروءة على نطاق واسع، والأستاذ المتخصص فى الإسلام فى جامعة ميشيجان أن التواصل الفعال يتطلب تغيير السياسة الخارجية الأمريكية وإعادة توجيهها بشكل كامل. وفى كتابه الأخاذ والمثير، يدعو كول إلى تواصل مستدام وواسع مع الشرق الأوسط الكبير، يرتكز إلى المصلحة المشتركة والفهم الكامل لسياسة ومجتمع وثقافة المنطقة. وتُعتبر المنطقة حاليا وستظل فى المستقبل محورية بالنسبة للأمن الأمريكى من حيث قضايا الطاقة والإرهاب، بل وبمفاهيمنا العامة عن بعضها البعض. ويدعو كول واضعى السياسة الأمريكيين إلى تأسيس نهج جديد، لا يأخذ فى الاعتبار المصالح الوطنية للولايات المتحدة فحسب، بل أيضا قلق المسلمين واحتياجاتهم. ولا يستخدم كول كلاما مواربا حول أولئك المحافظين الجدد الذين اختطفوا السياسة الخارجية الأمريكية فى عهد بوش عبر استخدام السياسة لترهيب الآخرين، أو تطبيق أجندتهم التوسعية. وفى واقع الأمر، لقد كلفه تحدى المحافظين الجدد منصبا مرموقا فى جامعة ييل وبالرغم من ذلك لم يتراجع كول. وعندما خلط منظرو بوش بين النشاط السياسى الإسلامى المشروع وبين إرهاب بن لادن، فإنهم بذلك أثاروا «قلقا تجاه الإسلام» غير عقلانى بدرجة كبيرة، وجد صداه لدى الكثير من الأمريكيين. ويُرجع كول أصل هذه الظاهرة إلى اعتماد أمريكا على نفط الخليج، حيث يقول: «تُعتبر حاجتنا إلى مصادر خارجية للطاقة مسألة أمن قومى... بل إن اعتمادنا فى الطاقة على العالم الإسلامى يولد قدرا كبيرا من القلق تجاه الإسلام». ويغذى سوء التفسير المتعمد للسياسات العربية والإسلامية انطباعا خاطئا بأن أغلبية العرب السنة أصوليون «بل إنهم قد يحاولون بناء دولة القاعدة التى ستضرب أراضى الولاياتالمتحدة». وقيل للأمريكيين إن جنودهم يقاتلون فى العراق من أجل منع القاعدة وأتباعها من ضرب الأحياء والمحال التجارية الأمريكية. ويؤكد كول أن القلق تجاه الإسلام بناء تم اختراعه ليضم فاعلين سياسيين مختلفين بشدة عن بعضهم البعض ولا يتشاركون فى شىء يذكر: الإخوان المسلمون فى مصر، والوهابيون فى السعودية، والبعثيون العلمانيون والأصوليون الإسلاميون فى العراق، والقادة الإيرانيون، وطالبان وقبائل البشتون فى باكستان/ أفغانستان، والكيان الدولى للقاعدة. ويفكك كول بطريقة منتظمة بعبع القلق تجاه الإسلام، مدمرا إياه، ومبينا أن التباينات والاختلافات ضمن السياسات الإسلامية أكبر وأهم من التضامن المُفترض. فعلى سبيل المثال، يتمثل الهدف المعلن للقاعدة فى الإطاحة بالنظام الملكى السعودى الموالى للولايات المتحدة، واستبداله بدولة دينية أكثر أصالة. وفى المقابل، أعلن الإخوان المسلمين ومقرهم الأساسى مصر منذ ستينيات القرن الماضى نبذ العنف لصالح السياسة وقبول قواعد اللعبة السياسية. كما أن هناك تنافسا ضاريا بين إيران الدولة الشيعية، والسعودية الدولة السنية، وهو ما أدى إلى استقطاب خطير فى المنطقة على أسس طائفية وقبلية. كيف إذَن يمكن أن يكون الاثنان جاءا من مصدر واحد؟