ظلت المقارنات بين الأزمة المالية العالمية والكساد العظيم فى الثلاثينيات موضوعا رئيسيا للتعليقات الدولية منذ الشلل الذى أصاب الأسواق المالية العام الماضى. وبدا أن بعض نواحى الشبه مبالغ فيها قليلا بالنسبة لبعض مجالات الإنتاج؛ مثل الإنتاج الصناعى. غير أن الانكماش غير العادى فى التجارة الدولية جعل المقارنة مع الانهيار المماثل له فى تلك المرحلة من الثلاثينيات سارية. وتظهر دراسة مقارنة تتبعية، أجراها بارى إيشنجرين من جامعة كاليفورنيا وكيفين أوروك من كلية ترينتى فى دبلن، أن حجم التجارة العالمية تراجع بسرعة تزيد بمقدار الضعف على سرعة تراجعه إبان الكساد الكبير. وخلال الشهور ال15 التى تلت ذروة ازدهار الاقتصاد العالمى فى يونيو 1929، تراجع حجم التجارة بنسبة 10%، وخلال نفس الفترة التى أعقبت مرحلة التحول الأخيرة فى أبريل 2008، انخفض حجم التجارة العالمية بنسبة 20%. وعندما شرعت التجارة فى الهبوط الحر، تكاثرت الرؤى النظرية بشأنها، ورأى البعض أنه من المحتمل أن يطول أمد حالة الضعف. واعتقد البعض أن ضعف تمويل التجارة الائتمان قصير الأجل الذى يحرك عجلات الاقتصاد العالمى شكل قدرا كبيرا من المشكلة. ووسط التقارير عن زيادة تكلفة تمويل التجارة بمئات من نقاط الأساس، وعن عجز بعض المستوردين عن تمويل مشترياتهم بأى تكلفة، ثارت المخاوف من أن النظام التجارى العالمى يعانى من مشكلات هيكلية وليس من ضعف الطلب فحسب. وناشدت قمة مجموعة العشرين التى انعقدت فى لندن أبريل الماضى، بنوك التنمية متعددة الأطراف، وفروع ائتمان الصادرات التابعة لها، لدعم سوق التمويل التجارى بخليط من القروض والضمانات على الرغم من أن ادعاء جوردون براون رئيس الوزراء البريطانى أن هذه الصفقة تساوى 250 مليار دولار، يبدو نوعا من أنواع الابتكار المذهل فى المحاسبة. فقد تبين أن مبلغ ال250 مليار دولار هو القيمة الإجمالية للتجارة التى يؤمل أن يغطيها التمويل خلال العامين المقبلين، وأن الحجم الفعلى للأموال الجديدة المطلوب طرحها لا يزيد على بضع مليارات. وفى الوقت نفسه، يعتقد البعض أن هبوط التجارة يرجع بقدر كبير إلى إجراءات الحماية التجارية، فى ترديد لصدى الثلاثينيات، وتمرير قانون سموت هولى سيئ السمعة الذى رفع الرسوم الجمركية على الواردات وأثار موجة من ردود الفعل الانتقامية فى العالم. واستمرت إجراءات عرقلة الواردات لصالح المنتجين المحليين مع برامج الإنقاذ وغيرها من أشكال الدعم، تتزايد خلال العام الماضى، على الرغم من تعهد مجموعة العشرين بالامتناع عن اتخاذ مثل هذه الإجراءات. وفى الممارسة العملية، فإن التجارة العالمية لم تنهض من عثرتها فحسب، وإنما شهدت تحولا كاملا بالفعل. ووفقا لمؤشر يحظى باهتمام واسع حول أحجام التجارة العالمية، يعده «مكتب تحليل السياسة الاقتصادية»، وهو مركز أبحاث هولندى، سجل حجم التجارة فى يوليو ارتفاعا بأسرع معدل له خلال خمس سنوات، وحتى متوسط الأشهر الثلاثة المتحرك، وهو مؤشر أكثر دقة للاتجاهات قصيرة الأجل، ارتفع للمرة الأولى خلال عام. فهل يمكن أن تكون الإجراءات التى تتخذها الحكومات مضمونة لتفادى كارثة؟ الإجابة هى: لدرجة قليلة فحسب. صحيح أن دعم تمويل التجارة، الذى تم تقديم الكثير منه عبر المؤسسة الدولية للتمويل، وهى جزء من البنك الدولى، يبدو أنه أثر بدرجة ما على تخفيض سعر هذا التمويل. غير أن قدرا كبيرا من التجارة العالمية يجرى بين شركات متعددة الأطراف، من الواضح أنها لا تحتاج تمويلا تجاريا لإبرام الصفقات بين بعضها البعض. ووفقا لتقدير روبرت زوليك، رئيس البنك الدولى فإن نقص التمويل الدولى مسئول عما لا يزيد على 1520% فحسب من انخفاض التجارة الدولية. وهكذا فإن المتهم بالتسبب فى هبوط التجارة (وبطل الانتعاش الظاهرى) ليس سوى الطلب. ومع انكماش الاقتصاد العالمى، تراجع حجم التجارة الدولية بصورة أسرع. غير أن ذلك مازال يمثل لغزا محيرا؛ فعلى الرغم من أن التجارة أسرع تقلبا مرتين أو ثلاث مرات عن الاقتصاد الكلى، فكان الهبوط هذه المرة أكبر كثيرا نسبيا. وهناك تفسير شائع يرى أنه بعدما أصبحت سلاسل التوريد موزعة بين عشرات من المراحل المنفصلة، صارت أى صدمة فى مجال الطلب تتضاعف خلال عدة علاقات مختلفة، وبذلك تبدو أضخم. ومع ذلك، كما يوضح بروفسور أوروك، بينما يمكن لنظرية سلسلة العرض تفسير السبب فى ارتفاع نسبة التجارة إلى الناتج الآن عنها فى السابق، إلا أنها لا تستطيع تفسير السبب فى انخفاض هذه النسبة بدرجات متفاوتة خلال فترة الهبوط الاقتصادى. وهو يرى أن احتواء التجارة على قدر أكبر من السلع المصنعة عن السلع الأساسية، يجعلها أكثر عرضة للتقلب، حيث إن ناتج السلع المصنعة يتفاوت بشكل أكبر من ناتج السلع الأخرى. وأيا ما كان التفسير، فإن توقعات النظام التجارى العالمى تبدو أكثر تفاؤلا عما كانت عليه قبل بضعة أشهر. وعلى الرغم من أن عدد الإجراءات الحمائية التى تتخذها الحكومات آخذ فى التزايد، فهى تظل وفق ما تطلق عليه منظمة التجارة العالمية حمائية «منخفضة الحدة». ويبدو من الأرجح أن ضعف الطلب هو سبب الانخفاض الحاد فى التجارة العالمية. ومن ثم، ينبغى أن يؤدى انتعاشه إلى ارتفاع حجم التجارة العالمية معه.