تصعب رؤية ديمترى ميدفيديف على أنه شخصية درامية أو مأساوية. فالرئيس الروسى، من الناحية النظرية على الأقل، أحد الرجال الأكثر نفوذا فى العالم. شخصيته مرحة، وخطاباته ليبرالية بشكل مفرح، وتزداد جرأة فى انتقادها للدولة الروسية الجديدة. لكن رؤياه لن تجدى نفعا طالما أن سلفه فلاديمير بوتين لايزال صاحب النفوذ الحقيقى فى البلد. لنأخذ مثلا آخر الاقتراحات التى تقدم بها ميدفيديف مؤخرا. البيان الذى نشر فى وقت سابق من هذا الشهر فى مدونة الرئيس الإلكترونية يدعو فيه إلى إعادة هيكلة اقتصاد روسيا «الرهيب» و«المختل» من خلال فطمه تدريجيا عن اعتماده على الطاقة والمعادن. يريد ميدفيديف بذلك «إقفال» البلدات غير المنتجة المعتمدة على قطاع واحد فى إنتاجها، والتى تصنع منتجات لا يرغب فيها أحد من أجل إنشاء قطاع تكنولوجى جديد والاستثمار أكثر فى قطاع التعليم والحد من التدخل البيروقراطى وتشجيع الروس على إنشاء مؤسسات تجارية صغيرة ومتوسطة الحجم، بعدما تم تقويض جهودهم بسبب الرشاوى والقوانين الصارمة. وقد قال ميدفيديف لجمهور من الأجانب أخيرا: «أمضينا تسعينيات القرن الماضى ونحن نحاول الاستمرار. ومن ثم أمضينا معظم العقد الماضى نحاول أن نرسى الاستقرار. أما الآن فنحن علينا تفكيك ما تبقى من إرث ماضينا السوفييتى «المحبوب». كل هذا يبدو جيدا ومبشرا من أول وهلة... لكنه مقوض من أساسه، لأنه قبل يوم واحد من نشر هذه المدونة، ألمح فلاديمير بوتين بشدة إلى أنه ينوى الترشح للرئاسة من جديد فى الانتخابات المقبلة عام 2012. قال بوتين: « (أنا وميدفيديف) سنتخذ هذا القرار معا. فنحن من دم واحد». فى اللغة المبطنة للسياسة الروسية العصرية، كانت الرسالة واضحة، ومفادها أن ميدفيديف لا يتعدى كونه بديلا مؤقتا حتى يستطيع بوتين العودة للسلطة مرة أخرى. عودة بوتين تلك ستقوض كل اقتراحات ميدفيديف الجذرية، بدءا من أفكاره الاقتصادية الثورية وصولا إلى خطته المقترحة سابقا لإصلاح النظام القضائى والأجهزة الأمنية الفاسدة فى روسيا. ذلك أن الكثير من مشاكل روسيا اليوم تسبب بها بوتين من الأصل. فخلال ولايتيه فى الحكم، تضاعف حجم البيروقراطية الروسية، فى حين أن حجم «اقتصاد الرشاوى» ازداد عشرة أضعاف مرة على الأقل بحسب تقارير منظمة الشفافية الدولية. وأصبح البيروقراطيون فى عهده نخبة رجال الأعمال، فيما ابتلعت الدولة من الكرملين وصولا إلى حكام المقاطعات وحتى رجال الشرطة المحليين المؤسسات التجارية الخاصة. اليوم، يستخدم المتنافسون التجاريون نفوذ الدولة لسجن خصومهم وإقصائهم من ساحة المنافسة. يدبرون مداهمات ملفقة بتهمة التهرب من دفع الضرائب، ويسرقون مؤسسات تجارية بأكملها بالتواطؤ مع السلطات المحلية. هذا الأمر الذى يجعل من شبه المستحيل على المؤسسات التجارية الروسية أن تتنافس دوليا أو تجتذب الاستثمارات الخارجية، لأنه ما من ضمانات على أن مؤسستك التجارية لن يتم الاستيلاء عليها. لذلك فالطريقة الوحيدة للاستمرار هى أن تكون مؤسستك كبيرة وذات علاقات وطيدة بأصحاب السلطة والنفوذ، مما يؤدى إلى نشوء إمبراطوريات تجارية مضخمة وغير فعالة. ميدفيديف وحده غير قادر على إصلاح كل هذه المشاكل. قد تكون لديه أفكار جذرية، لكنه فى نفس الوقت ينتمى إلى المجموعة الحاكمة.. وقد اختاره بوتين خصيصا لأنه لا يشكل تهديدا لعودته فى المستقبل. مع ذلك، فإن ميدفيديف يتعدى كونه «مجرد واجهة» لبوتين... حتى الكثير من النقاد يعتبرون حلوله لمشاكل روسيا صائبة. لكن ما يفتقر إليه فى الواقع هو النفوذ. فحملته لمكافحة الفساد لم تؤد إلى طرد أى من كبار المسئولين الذين عينهم بوتين فى عهده. ومطالبته بأن يصرح البيروقراطيون عن دخولهم وممتلكاتهم علنا أدت إلى تصريحات منقوصة بشكل مضحك، مما ساهم فى ترسيخ الفكرة القائلة إن ميدفيديف يفتقر إلى النفوذ لمواجهة النظام القائم. إن اقتصاد روسيا أشبه بالدلو المثقوب، إنه يبدو ممتلئا بفضل كمية الأموال التى تضخ فيه، والتى يأتى معظمها من الأرباح التلقائية لشركات قطاعى النفط والغاز. أما فى الحقيقة، روسيا متخلفة عن باقى العالم المتقدم بكثير فى كل مؤشرات التنافسية والإنتاجية. عند بداية حكم بوتين عام 2000، كانت روسيا تحتل المرتبة 55 على مؤشر المنتدى الاقتصادى العالمى للدول الأكثر تنافسية فى العالم.. وبحلول عام 2009، وبعد عقد من الاستقرار والازدهار والأرباح الهائلة من قطاعى النفط والغاز، تراجعت إلى المرتبة 63. وفيما يتعلق بالحماية القانونية للمستثمرين وحقوق الملكية، تراجعت روسيا فى ظل حكم بوتين 20 مرتبة إلى الوراء، لتصبح فى المرتبة 116. لا عجب إذن أنه فيما بدأت أوروبا والولايات المتحدة تظهران دلائل على أن ناتجهما المحلى الإجمالى يعاود النمو والتعافى من جراء الأزمة المالية العالمية العاصفة، توجب على روسيا تعديل توقعاتها نحو الأسوأ، وهى تتوقع الآن أن ينخفض ناتجها المحلى الإجمالى بنسبة 8.5 بالمائة هذا العام. نظرا إلى كل هذه النزعات، أصبح الرئيس ديميترى ميدفيديف شخصية جذابة بشكل خاص، وذلك بسبب انتقاداته اللاذعة وقضيته الميئوس منها. Newsweek International