نشرت مدونة ديوان الصادرة عن مركز كارنيجى لدراسات الشرق الأوسط مقالا للكاتب «مايكل يونغ» يتناول فيه: أوهام نصر الإسرائيليين على الفلسطينيين. وإن مثل هذا الاعتقاد خطير وعبثى فى آن واحد. فقريبا، سيصبح الفلسطينيون أكثرية ديموغرافية فى إسرائيل والأراضى المحتلة، ما يفرض على الإسرائيليين واحدا من ثلاثة بدائل فى حال التخلى عن الحل المتمثّل بإقامة دولتَين قابلتين للحياة: مواصلة القمع إلى ما لا نهاية، أو الشروع فى الطرد الجماعى للفلسطينيين إلى البلدان العربية المجاورة، أو منح الفلسطينيين حقوقا مدنية متساوية. استهل الكاتب حديثه بالإشارة إلى ضمّ الكونجرس الأمريكى، منذ أبريل، لمجموعة تطلق على نفسها اسم تكتّل النصر الإسرائيلى. ويقول هذا التكتّل المكوّن من نواب أمريكيين موالين لإسرائيل: «حان الوقت للتخلى عن مفاهيم الإغناء التى تنتمى إلى ما بعد الحداثة، والعودة إلى المفهوم المُختبر والمُثبت حول النصر. ربما آن الأوان كى تفوز حليفتنا إسرائيل، وكى يحظى الفلسطينيون بفرصة لتحسين حياتهم». يكاد ذلك يتساوى نسبيا مع الفلسفة التى ينتهجها راهنا المبعوثون الأمريكيون المكلَّفون بالتفاوض من أجل التوصل إلى تسوية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فالولاياتالمتحدة تسعى، من خلال سلسلة من الخطوات الأحادية فى الأشهر الأخيرة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، قطع التمويل عن وكالة الأممالمتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، والدفع باتجاه فرض خفضٍ كبير لأعداد الفلسطينيين المعترَف بهم كلاجئين، فضلا عن إغلاق مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية فى واشنطن، إلى إرغام الفلسطينيين على القبول بأنهم الخاسرون فى نزاعهم مع اليهود. بيد أن هذا المجهود سيقود إلى نتائج معاكسة تماما لما يتوخّاه مروّجوه. ما جرى هو تمهيدٌ لما سيأتى. فما تقوم به إدارة ترامب وحكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يُرسى الأسس لمشكلة ستكون عصيّة على الحل. ربما تظنّ إسرائيل وأصدقاؤها فى أمريكا أن حججهم تسود حيال الفلسطينيين، إنما واهمٌ من يعتقد أن بإمكانه حمل ملايين الفلسطينيين على الانكفاء والاستسلام لمجرد أن ذلك يُرضى سرديتهم المفضّلة. *** ويضيف الكاتب أن النتائج المحتملة معروفة جيدا فى هذه المرحلة. فقريبا سيصبح الفلسطينيون أكثرية ديموغرافية فى إسرائيل والأراضى المحتلة، ما يفرض على الإسرائيليين واحدا من ثلاثة بدائل فى حال التخلى عن الحل المتمثّل بإقامة دولتَين قابلتين للحياة: مواصلة القمع إلى ما لا نهاية، فيما يستمرون فى تطبيق منظومة منحازة بصورة أساسية ضد الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال؛ أو الشروع فى الطرد الجماعى للفلسطينيين إلى البلدان العربية المجاورة؛ أو منح الفلسطينيين حقوقا مدنية متساوية، ما قد يفتح الباب فى نهاية المطاف أمام تحوّلهم إلى مواطنين فى دولة واحدة ثنائية القومية يرفضها اليهود معتبرين أنها تشكّل تهديدا وجوديا لهم. ليس هناك من طريق رابع، وحتى الخياران الثانى والثالث مستبعَدان إلى حد كبير على ضوء التكاليف الهائلة، المعنوية أو الديموغرافية، التى يمكن أن تترتّب على إسرائيل. لكن إذا ما كان القمع هو الخيار الوحيد، فهذا يعنى أن الفلسطينيين، المحرومين من جميع الإمكانيات الأخرى، سيرون فى العنف السبيل الأوحد لتحقيق أهدافهم السياسية. والجهود الحمقاء التى تبذلها إدارة ترامب راهنا لإرغام الفلسطينيين على القبول بهزيمتهم، ستدفع بهم حكما فى هذا الاتجاه، لأن ذلك يُشير إلى أنه لا وجود لمسارٍ من المفاوضات المُجدية. *** قيل الكثير عن أن الفلسطينيين الشباب لم يعودوا يركّزون على الحصول على دولة، بل يُبدون حرصا أكبر على كسب حقوقهم فى أى إطار ممكن. لكن ماذا يعنى ذلك حقا، إذا ما كانت جميع الخيارات التى أبقت عليها إسرائيل لنفسها تقود إلى إنكار الحقوق الفلسطينية؟ وفيما يُصبح الفلسطينيون أكثر إدراكا لوزنهم الديموغرافى، ستستهويهم أكثر لاشك الرغبة فى إشعال الثورة مجددا. قد لا يكون الفلسطينيون مستعدّين للعنف راهنا، لكنهم سيستعيدون جهوزيّتهم ذات يوم، إلا إذا التمسوا مسارا آخر يُقدّم لهم نتائج أفضل. سوف تردّ إسرائيل انتقاما، مُردّدةً الاتهام المعهود بأن الفلسطينيين لا يفهمون إلا باستخدام العصا معهم، لكن السياق سيكون قد تغيّر بحلول ذلك الوقت. فالإسرائيليون، الذين سيكونون قد كسبوا الكثير عن طريق رعاتهم الأمريكيين، لن يُنظَر إليهم بعين التعاطف مثلما كان يحدث سابقا. إنها نتيجة إضافية من نتائج نزعة الثأر الأمريكية فى الأشهر الأخيرة، فقد استهدفت الولاياتالمتحدة الفلسطينيين الأشد هشاشة وفقرا، وقطعت عنهم المساعدات. وهكذا فإن كثيرا ممّن يشاهدون ما يجرى، لن يعودوا مستعدّين لإلقاء اللائمة على الضحايا. فى نهاية المطاف، ستعود غطرسةُ مَن يدفعون باتجاه فرض نصرٍ إسرائيلى، بنتائج مناوئة لإسرائيل. يتعذّر تحقيق نصرٍ، سواءً من جانب الإسرائيليين أو الفلسطينيين، طالما أنه حُكِم على الشعبَين أن يعيشا جنبا إلى جنب. لقد تكرّرت الإشارة إلى هذا الواقع مرارا كثيرة، بحيث إنه من المستغرَب أن مثل هذه الحقيقة البديهية لا تزال غافلة عن صنّاع السياسات. بغية استلهام عبرةٍ من الماضى، يستحق الأمر عناء العودة إلى مقابلة أجراها آرى شافيت من صحيفة «هاآرتس» مع المؤرّخ الإسرائيلى بينى موريس فى يناير 2004، وكانت موضع نقاش واسع. لقد تحدّث موريس، وهو من أبرز المؤرّخين التنقيحيين فى إسرائيل ومؤلّف كتاب ريادى عن ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، عن المنطق الذى يقف خلف طرد الفلسطينيين على أيدى القوات الصهيونية فى حرب 1948. يقول موريس: إن قرار «نقل» السكان اتّخذه الزعيم الصهيونى ديفيد بن غوريون. ولدى سؤاله عمّا إذا كان بن غوريون يتحمّل مسئولية سياسة الطرد الجماعى، وعما إذا كان هذا الأخير «من أنصار نقل الفلسطينيين» (transferist)، وفق التعبير الذى استخدمه شافيت، أجاب موريس: بالطبع كان بن غوريون من أنصار النقل. لقد أدرك أنه لا يمكن قيام دولة يهودية بوجود أقلية عربية كبيرة ومعادية فى وسطها. يتعذّر قيام دولة من هذا القبيل. لن تتمكّن من فرض وجودها. كان بن غوريون محقا. لو لم يفعل ما فعل، لما أبصرت الدولة النور. يجب أن يكون هذا الأمر واضحا. يستحيل التهرّب منه. لولا اقتلاع الفلسطينيين، لما أمكن قيام دولة يهودية هنا. صحيح أن موريس كان يتكلم عن العام 1948، إنما لا مفرّ من إسقاط مضمون كلامه على الوضع الراهن. بالفعل، لم يتغيّر الكثير فى تعلّق الشعبَين الجوهرى بالأرض. بيد أن كل ما تفعله القيادة الإسرائيلية الراهنة يصبّ فى إطار الاحتفاظ بسكانٍ عرب معادين سيصبحون قريبا أكثرية فى وسط إسرائيل. لهذا يبدو مفهوم النصر الإسرائيلى عبثيا جدا. ولهذا السبب أيضا لا يمكن أن يتحقّق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلا من دون نصر لأى طرف. النص الأصلي: