«أهلا بكم فى المتحف البريطانى» حين تدخل المتحف تأخذ ورقة مطوية مرفقا بها خريطة للمتحف ومكتوبا عليها بخط واضح: «أهلا بكم فى المتحف البريطانى.. متحف عن العالم وللعالم»، ولعل أول سؤال يمكن أن يطرأ على ذهن من يقرأ هذه الجملة هو: إذا ما كان فعلا المتحف البريطانى هو متحف عن العالم وللعالم.. إذا كان ذلك صحيحا فلماذا يحمل اسما له صبغة وطنية مفرطة إلى هذا الحد؟ وحقيقة الأمر هى أنه ليس هناك الكثير من الأسباب يمكن أن تجعل هذا المتحف «بريطانيًا» من حيث ما يعرض على الأقل. ولعل النظر لهذا المتحف بنظرة ما بعد الكولونيولية تفصح عن مراحل مختلفة لتطور هذا المتحف بدأت بصفة مفرطة فى الكولونيولية، وصولا إلى مرحلة ما بعد الكولونيولية الحالية. فالرسالة التى ينقلها المتحف البريطانى لزائريه هى ببساطة أن «بريطانيا العظمى مازالت عظيمة» بحسب الجملة التى صكها كريس سيلفرستر فى عام 2009. وكان افتتاح المتحف فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر ليستمر فى توسعه بالتوازى مع التوسع الذى حققته الإمبراطورية البريطانية. وقام السير روبرت سميرك بإعادة صياغة معمارية تقريبا للمتحف، وهو من قام بتصميم نحو 44 من الأعمدة فى استلهام لمعبد اثينابولس واتساقا مع الطراز الإغريقى الحديث، وفى هذا ما يلفت إلى أنه حتى من حيث التصميم المعمارى فإن المتحف البريطانى ليس به الكثير من استلهامات المعمار البريطانى، بل هو بالأحرى تعبير عن مدى اتساع الإمبراطورية البريطانية. ولا يمكن لمن يصل إلى عتبات المتحف البريطانى إلا أن يستشعر عظمة المكان الطاغية، ليدخل الزائر إلى حيث توجد ملايين من القطع، من كل أنحاء العالم، والتى لا يمكن أن تقدر بثمن. وكان هناك الكثير من الجدل حول بعض هذه القطع وضرورة إعادتها إلى بلدانها مثل بعض أهم القطع التى تمثل الحضارة الإغريقية. وفى هذا المتحف توجد ثانى أكبر مجموعة من الآثار الفرعونية ولا يسبقها من حيث التنوع والأهمية سوى مجموعة المتحف المصرى. تهدف هذه المقالة لنقاش قطعة واحدة من العديد من القطع المصرية الموجودة بالمتحف البريطانى وهى حجر رشيد. ولقد قامت مجموعة من جنود الحملة الفرنسية لمصر التى قام بها نابليون بونابرت باكتشاف هذا الحجر عام 1799 والتى مكنت العالم من فك طلاسم اللغة الهيروغليفية وقراءتها. وبعد الهزيمة التى تعرضت لها الجيوش الفرنسية فى معركة النيل عام 1801 فقدت سيطرتها على هذه القطعة وغيرها من القطع المهمة من قبل القوات البريطانية المحتلة التى لم تسمح للدولة المصرية الدخول فى مفاوضات حول مصير هذه القطع كما لم تسمح للشعب المصرى أو دولته تقرير مصيرها. وبحسب التقديرات المتاحة فإن حجر رشيد هو القطعة التى تحظى بأكثر اهتمام من المترددين على المتحف البريطانى. وعلى الرغم من أنه من المقرر أن القطع الأثرية الأهم تحظى بحيثية تاريخية أكبر حال عرضها فى بلدانها فإن السلطات المصرية لم يسمح لها أبدا بأن تقوم بعرض حجر رشيد أو حتى إجراء دراسة متفحصة لهذه القطعة التى تم تمريرها بين عدد من المتاحف الأوروبية منذ اكتشافها من قبل جنود الحملة الفرنسية. وكانت هناك محاولات عديدة فيما سبق بشأن تمكين مصر من استعادة حجر رشيد. وفى هذا الشأن قال زاهى حواس، رئيس المجلس الأعلى للآثار فى عام 2003 إذا ما أراد البريطانيون أن يضعوا بصمة إيجابية على تاريخهم فسيكون عليهم إعادة حجر رشيد إلى مصر خاصة أن هذا الحجر هو عنوان لهوية الحضارة المصرية القديمة. وفى عام 2009 فى ظل الازمة الاقتصادية العالمية طرح حواس أن تحظى مصر فقط بحق استعادة حجر رشيد لمدة 3 أشهر اثناء عام 2013 ليتم عرضه مع افتتاح المتحف المصرى الكبير فى ذلك العام حسبما كان مقررا فى حينه. وكما تم رفض طلب إعادة حجر رشيد إلى مصر تم رفض طلب الموافقة على عرضه بالتزامن مع افتتاح المعرض الكبير. وربما بالفعل يمكن القول إن وجود حجر رشيد، بما يمثله من نقلة فاصلة فى قراءة التاريخ، يجعل من الأسهل على أعداد أكبر من السائحين الاطلاع عليه فى لندن التى هى أيضا بالتأكيد واحدة من أهم المدن الكوزموبوليتانية فى العالم، ولكن ربما يكون نقله إلى مصر مدعاة للبعض أيضا لزيارة مصر لرؤية هذا الحجر. فى كل الأحوال فإن معظم القطع الموجودة حاليا بالمتحف البريطانى تم اقتناؤها من خلال تفاعلات دبلوماسية سياسية.. وهنا علينا أن نقول: «أهلا بالعلاقات الدولية حيث الواقعية هى الفيصل». ولكن هذا المنظور يتجاهل حقيقة أن بعضا من القطع الموجودة فى المتحف البريطانى تمثل نقاط تحول هائلة فى قراءة حضارات بعينها، وهى بالتالى ليست مجرد قطع ولكن عناوين رمزية لهذه الحضارات، ولعل حجر رشيد بما يمثله للحضارة المصرية هو نموذج بالغ الوضوح فى هذا الشأن، وبالتالى فان الإصرار على حرمان مصر من عرضه يمثل تذكرة بفظائع ارتكبتها الإمبراطورية البريطانية لا يمكن إنكار ما جلبته من عذابات وإهانات وصراع من أجل نيل الحرية بل إنه يمكن القول إن الإصرار على عدم السماح بنقل حجر رشيد لمصر هو فى الحقيقة عنوان للرمزية التى يمثلها التاريخ الاستعمارى لبريطانيا. ولمصر الآلاف من القطع التى تتواجد متناثرة حول العالم بعد أن كانت كلها فى المستقر الآمن على الأرض المصرية، ولكن حجر رشيد هو عنوان للحضارة التى أنتجت كل هذه القطع، وهنا يكون السؤال: هل من السذاجة المفرطة المطالبة بعودة حجر رشيد لمصر حيث كان وحيث تم اكتشافه وأخذه عنوة وبدون موافقة البلاد ولا إقرار من أهلها بنقله؟. أظن أن علينا إعادة قراءة هيكلية القوى التى مثلها تاريخ بريطانيا الاستعمارى والنظر فى سبل التعاطى معه، وعلى الرغم من أن القانون الحاكم للمتحف البريطانى والذى تم إقراره فى مطلع الستينيات من القرن العشرين لا يسمح بنقل أى قطع أصبحت فى حوزة المتحف البريطانى فإننا يجب علينا أن نتساءل عما إذا كنا فى حقبة تسمح لنا باعادة قراءة هذه القوانين وطرح الأسئلة حولها.