من تعنت الكفار واعتراضهم على النبى صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقولون: لماذا لم ينزل عليه القرآن جملة واحدة مثل غيره من الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها؟! فأجابهم الواحد الأحد جل وعلا بأن الله تعالى نزله مفرقا على مدى مسيرة الدعوة بحسب الوقائع والأحداث والمناسبات، وبحسب ما يحتاج إليه النبى رصلى والمؤمنون من الأحكام، وليثبت به الله عز وجل فؤاد النبى فى مسيرته الدعوية، «وقرْآنا فرقْناه لتقْرأه على الناس علىٰ مكْث ونزلْناه تنزيلاً «[الإسراء: 106]، ويجيب به على شبههم؛ قوله تعالى: «ولا يأْتونك بمثل إلا جئْناك بالْحق وأحْسن تفْسيرا» [الفرقان: 33] أى: لا يأتونك بحجة أو شبهة إلا جئناك بأجمل الجواب، ونزلنا عليك أحسن البيان. ثم إن هذه الطريقة لنزول القرآن الكريم هى أعظم وأجل من نزوله جملة واحدة؛ ففى ذلك مزيد عناية واهتمام بالنبى صلى الله عليه وسلم، وتسلية له، وإمتاع له بهذه الصلة الربانية الطويلة، وبهذا التأييد المتتابع، والأنس المتتالى بآيات الله تعالى ووحيه، وبلقاء جبريل. ثم إن القرآن قد جمع الميزتين؛ فهو أنزل جملة واحدة من بيت العزة إلى السماء الدنيا، ثم أنزل بعد ذلك منجما على النبى، عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: «فصل القرآن من الذكر فوضع فى بيت العزة فى السماء الدنيا فجعل جبريل عليه السلام ينزل على النبى صلى الله عليه وسلم يرتله ترتيلا» [النسائى فى الكبرى: 7937]. وفى رواية: نزل القرآن جملة واحدة فى ليلة القدر، وكان الله عز وجل ينزل على رسول الله بعضه فى أثر بعض، «وقال الذين كفروا لوْلا نزل عليْه الْقرْآن جمْلة واحدة، كذٰلك لنثبت به فؤادك، ورتلْناه ترْتيلا» [الفرقان: 32]. [النسائى فى الكبرى: 11625]. النبى يمشى فى الأسواق من مجادلات المشركين بالباطل، ومحاولاتهم للتشويش على النبى صلى الله عليه وسلم ورسالته، وإثارة الشبهات الباطلة، أنهم كانوا يقولون: كيف يكون هذا رسولا من عند الله وهو يأكل الطعام، ويمشى فى الأسواق، مثله مثل بقية الناس؟ ولماذا لم ينزل الله تعالى عليه كنزا من السماء أو تكون له جنة يأكل منها فلا يحتاج إلى بيع أو شراء؟؛ قال تعالى: وقالوا مال هذا الرسول يأْكل الطعام ويمْشى فى الْأسْواق لوْلا أنْزل إليْه ملك فيكون معه نذيرا (7) أوْ يلْقى إليْه كنْز أوْ تكون له جنة يأْكل منْها وقال الظالمون إنْ تتبعون إلا رجلا مسْحورا (8) انْظرْ كيْف ضربوا لك الْأمْثال فضلوا فلا يسْتطيعون سبيلا (9) تبارك الذى إنْ شاء جعل لك خيْرا منْ ذلك جنات تجْرى منْ تحْتها الْأنْهار ويجْعلْ لك قصورا (10)} [الفرقان: 7 10]. وقد رد الله عز وجل عليهم بقوله: وما أرْسلْنا قبْلك من الْمرْسلين إلا إنهمْ ليأْكلون الطعام ويمْشون فى الْأسْواق، وجعلْنا بعْضكمْ لبعْض فتْنة أتصْبرون، وكان ربك بصيرا» [الفرقان: 20]. فالأنبياء جميعا كانوا من البشر؛ يأكلون ويشربون، ويدخلون الأسواق للتكسب والتجارة وطلب الرزق، ويمارسون حياتهم كغيرهم من الناس، إلا أن الله عز وجل اصطفاهم وزكى أرواحهم وقلوبهم؛ ولذلك قال تعالى: وما أرْسلْنا قبْلك إلا رجالا نوحى إليْهمْ، فاسْألوا أهْل الذكْر إن كنتمْ لا تعْلمون (7) وما جعلْناهمْ جسدا لا يأْكلون الطعام وما كانوا خالدين (8) [الأنبياء: 7، 8]. تشابه مواقف الكافرين من دعوة الأنبياء عجيب أمر أهل الكفر والشرك والشك والزيغ والضلال والهوى، فقد تشابهت قلوبهم، وتوافقت أفكارهم وأساليبهم وحيلهم ومجادلاتهم، ومواقفهم على مر التاريخ من كل دعوة خير، أو صوت هدى، أو نداء إيمان. إن الكفر بالله عز وجل والإعراض عن أنوار هدايته يورث عمى القلوب، وظلام النفوس، وانطماس البصيرة، ولقد ظلت الآيات القرآنية تتنزل على النبى مطمئنة له بحسن العاقبة، مسلية له بقصص الأنبياء قبله، آمرة له بالصبر والتحمل والمسير على ما ساروا عليه، واعدة له بأن العاقبة للمتقين، والنصر للمؤمنين.