يبدو أن رائد الكابوسية الأول «فرانز كافكا» مازال قادرا على إلهام الكتاب والمبدعين، فمن رحم هذه الكتابة السوداوية المازوخية التى ابتدعها، الموسومة بالعصاب والعبث والفصام، تطل علينا من حين لآخر أعمال تحيلنا فى الحال لمسخ «كافكا» البشرى، ومتاهته داخل «القلعة» المستبدة، ورسائله الملتبسة لأبيه الذى يدفعه للموت. ورواية «أبدية خالصة» أحدث أعمال الكاتب المغربى «علال بورقية» تعد تمثيلا أمينا لهذا الاتجاه، ذلك لأن الرواية الصادرة مؤخرا عن دار «العين» للنشر تقذف منذ أولى صفحاتها للقارئ بحادثة انتحار بطلها «سمير الحفراوى»، وهو الذى أهدى له المؤلف روايته، ملخصا فى سطور إهدائه حياة هذا البطل، ومبررا موته فى آن، يقول «بورقية»: «إلى ذكرى سمير الحفراوى الذى انتحر من فرط ما عاش ذات خريف، فى غرفته العلوية بشارع أوطيل دى مونيه، منهيا بذلك حياة خاسرة بلا ألق. ومن هنا تكون أحداث ووقائع الرواية المحكية بضمير المتكلم مجرد استرجاع أو «فلاش باك» لما قبل انتحار «سمير الحفراوى»، المهاجر المغربى السرى لبروكسيل، التى باتت الآن عاصمة للمهاجرين المغاربة لكثرة أعدادهم هناك. إلا أن المؤلف يستبق سرده الممتد بمقولة «سيرفانتس»: (الوقائع معادية للحقيقة)، مشككا بذلك فى كل ما سيلى هذه المقولة من سرد وحكى وتقرير، وهو قرار نموذجى سيسهل على القارئ تلقى كل هذه الأحداث فوق الطبيعة، التى سيرويها «علال بورقية» أو «سمير الحفراوى» أو مصهورهما معا، إذ لا يشى الحكى بحدود ملموسة بين كل من الراوى والمؤلف. فى (146) صفحة يسرد المؤلف أحداث يوم واحد، يبدأ منذ الصباح الذى تلا ليلة خريفية عاصفة، حين قرر «سمير» من غرفته بشارع «أوطيل دى مونيه» إنهاء حياته البائسة بعد جوع وفقد وفقر زادوا عن الاحتمال. وفى محاولة للهرب من فكرته الموخزة يخرج «سمير» إلى الشارع البارد، فتتلبسه الفكرة أكثر فيحملها معه ويركب المترو، الذى يعتبر مجرد الوجود داخل نفقه حياة أبدية خالصة. بعد بضع محطات يجد البطل نفسه فى مواجهة مع بيت حبيبته المغربية «وحيدة»، فيذهب إليها ليتعطل به المصعد الكهربائى، ويغرق فى دوامة من الظلمة تمتد لساعات طويلة، قبل أن تأتى النجدة والفاجعة فى آن، إذ يفاجأ بالأمن يلقى به فى الوحل المقابل لمسكن حبيبته، بعدما اتهمته الأخيرة بمطاردتها، وسافرت فرارا منه!. فى طريقه للعودة مر «الحفراوى» بأماكنه الحميمة فى هذه المدينة، محل «ليونيداس» حيث تعمل صديقته الإغريقية «ستيلا»، لكنه كان يوم إجازتها الأسبوعية، فانطلق إلى سينما «فاندوم»، ثم المقهى الكبير حيث ذكرياته المطوية مع «وحيدة»، قبل أن يتوقف كثيرا عند مطعم العشب الأحمر الذى أغلق أبوابه هذا الصباح، مغيبا وجه صاحبه «موريس الرشيدى» الذى كان يود «سمير» لو رآه للمرة الأخيرة، يقول: «ها أنا ذا عدت إلى حيث بدأت خطوى هذا الصباح، شارع لويزا الراقى بمحلاته المشبعة بحياة مغايرة، أقف قبالة إحدى واجهاته المتألقة لأجد نفسى منبوذا ومقصيا للوهلة الأولى. أتذكر أيامى الأولى كمهاجر سرى ينعم بشقة فاخرة فى شارع إرنست ألار وبشغل فى مطعم العشب الأحمر. لم يكن هذا يناسب وضعى طبعا لكنه يستجيب للجنون والهوس الذى أرتكن إليه لألحق بحياة فاتنة مبتغاة، ولكى ألوى عنق أيامى المبتئسة قبلا فى طنجة، وأعتبر هذا حق الظفر المحتوم على مخالب الحياة التى نهشتنى بضراوة». بعدما لفظته كل هذه الأماكن معلنة أنه يوم يستحق أن يكون النهاية، قرر «سمير» العودة إلى غرفته وإنهاء حياته، لكن بوصوله إلى منزله تبدأ المفارقات إذ يتغيب فجأة كل سكان العقار الذى أراد اليوم فقط أن يتعرف عليهم ويودعهم فى آن. سائق الباص المقامر التعس بحبه لفريدة ابنة القوادة المغربية «للاملانة»، عامل المطبعة الوحيد، وجارته المترهلة الشبقة «ماغى»، إلا أن أحدا لم يكن هناك. حين جرب الطرق على شقة سائق الباص لم يستجب أحد، وحين طرق باب عامل المطبعة، فوجئ بطفل صغير فتح له وذاب بعد ذلك، موصدا وراءه الباب وتاركا «سمير» لجولة كابوسية داخل الشقة، أسفرت عن صورة له داخل ألبوم لامرأة وطفلها وهو محشور بينهما، وعندما فتح التليفزيون قذفه المذيع بسيل من الانفجارات والانهيارات والحرائق، قبل أن ينقل له خبر احتراق المبنى الذى يجلس فيه الآن ووفاة كل من فيه: عامل المطبعة وسائق الباص وماغى والمرأة صاحبة الألبوم وطفلها الذى فتح الباب، والأكثر من ذلك حبيبته «وحيدة» وصديقته «ستيلا»، رغم أنهما ليسا من سكان العقار. لم تكن هذه هى المفاجأة الوحيدة، ولا حتى اختفاء صورة «سمير من المرآة التى أمامه، ولا الهاتف الذى استنجد به لينقذه أحد من وهمه، فجاءه صوت صاحابة الألبوم على الخط المقابل، تعلن أن الرقم الذى طلبه هو ذاته رقم شقتها التى يدعى أنه محبوس فيها الآن، لكن أن ينفتح باب الشقة بسهولة ليجد نفسه أمام شقة «ماغى» ينتظره حفل راقص يحضره كل من جيرانه «ماغى» وعامل المطبعة وسائق الباص، وصاحبة الألبوم و«وحيد» والقوادة «للأملانة» وابنتها «فريدة» والنائب المغربى «عامر السطلى» يتناوبون العشق أمامه فهو ما كان فوق احتمال دماغه. فى النهاية يذهب الجميع إلى الخارج وتذهب «وحيدة» مع عامل المطبعة قبل أن يراها تهرول نحوه إلى الرصيف، يطاردها عامل المطبعة ويصوب نحوها رصاصة تتركها لتخترق رأس «سمير الحفراوى» الذى يفتح عينيه فى اللحظة نفسها التى ينتهى فيها حلمه الكابوسى ليجد غرفته كما تركها قبل أن ينام: «التلفاز يومض بذرات رمادية معلنا نهاية الإرسال، ومنبه صغير يشير إلى السابعة والنصف صباحا، ورواية (أبدية خالصة) مفتوحة على كلمة استهلال لسيرفانطيس: الوقائع معادية للحقيقة». وبهذا تكون رواية «بورقية» رواية إطار، أو رواية داخل رواية، و«يكون سمير الحفراوى» بطل ومؤلف وراو فى الوقت ذاته، وكل ما حدث أنه كتب استهلال روايته قبل أن ينام ثم جاءت باقى الأحداث مروية داخل إطار حلمى أو كابوسى، وظفت خلاله مجموعة من التقنيات السردية كالفلاش باك والحلم والمونولوج الداخلى، وتم التلاعب بالزمن على نحو معقد منح الأحداث سوداويتها ولا معقوليتها، قبل أن يعلن فى نهاية روايته عن مفارقة كونها مجرد حلم، ويحطم الحقيقة الأولى التى صدر بها الرواية وهى موت أو انتحار «سمير الحفراوى»، فياله من شرك صنعه «كافكا» و«بورقية» و«الحفراوى» معا!.