لأن الزمار يموت فى حين تستمر أصابعه فى اللعب، كما يقول المثل الشائع، فإن الحرفة تجعلنى أراجع صياغة الأخبار المنشورة كما لو أننى مازلت سكرتيرا أو مديرا للتحرير، وهو ما جعلنى أدقق فى الكيفية التى نشر بها خبر مصرع مدير مباحث محافظة الجيزة، بعدما صدمته عربة طائشة قبل انطلاق مدفع الإفطار يوم الأربعاء الماضى، 26/8، إذ نشر الأهرام فى اليوم التالى «27/8» أن اللواء مصطفى زيد، استشهد فى أثناء تأدية واجبه، حيث كان الرجل ومعه مدير شرطة الطرق والمنافذ عند الطريق الدائرى بمحور المنيب يشرفان على تسهيل حركة المرور قبل الإفطار، «من خلال المنهج الذى تنتهجه وزارة الداخلية بالدفع بضباط الشرطة والمرور لتسهيل حركة المرور» هكذا ذكر الأهرام بالنص، ثم أضاف أنه: بعدما انفرجت حركة المرور وتحول الطريق من متوقف تماما إلى سهولة ويسر جاءت سيارة منطلقة بسرعة جنونية، فأطاحت بالرجلين، فقتلت اللواء مصطفى زيد وأصابت العميد مجدى عبدالله مدير شرطة الطرق والمنافذ. فى اليوم نفسه «28/8» قالت صحيفة الوفد: إن «العميد» مصطفى زيد مدير المباحث الجنائية بالجيزة كان يقف على وصلة الدائرى الجديد بصحبة اللواء محسن حفظى مساعد أول الوزير لأمن الجيزة، واللواء كمال الدالى مدير الإدارة العامة للمباحث، وكان الثلاثة يقومون بمهمة معاينة المحور الجديد ووضع تصور لنقاط الخدمة عليه، تمهيدا لقيام الرئيس مبارك بافتتاحه خلال أيام، وفى أثناء وقوفهم على المحور جاء «أتوبيس» تابع لهيئة حكومية ودهسه مع ضابطين آخرين هما العميد مجدى عبدالله والرائد أشرف فودة، فقتل الأول وأصاب الآخرين. أثار انتباهى فى الخبر المنشور عدة أمور، فقد لاحظت أن الأهرام أغفل ذكر اثنين من كبار الضباط كانا مع الضابط الشهيد، أعنى مساعد أول الوزير لأمن الجيزة ومدير الإدارة العامة للمباحث، كما أننى استغربت أن يخرج ثلاثة من أصحاب الرتب الرفيعة بسلك الشرطة لتيسير المرور الذى لا علاقة لهم به على المحور «وهى المهمة التى يستطيع أن يقوم بها أمناء الشرطة أو أى ضابط صغير، وقد جعلنى ذلك أكثر ميلا إلى تصديق خبر صحيفة الوفد، الذى ذكر أن مهمتهم الحقيقية كانت ترتيب زيارة الرئيس للمحور. دعك من اختلاف الروايتين فى رتبة الضابط الشهيد، الذى لم أستبعد أن يكون وزير الداخلية قد أمر بترقيته بعد استشهاده. لاحظت أيضا أن الأهرام تجاهل هوية حافلة الركاب، التى ذكرت صحيفة الوفد أنها تابعة لإحدى الجهات الحكومية، لاحظت كذلك أن صياغة الأهرام أرادت أن تسجل نقطة لتلميع وزارة الداخلية، حين ذكرت أن الضباط كانوا يشرفون على حركة المرور. التزاما بنهج وزارة الداخلية الحريصة على استمرار تسهيله. لفت نظرى أيضا أن وزارة الداخلية بالغت فى توديع جثمان الضابط الشهيد، فإلى جانب منحه رتبة لواء، فإن وزير الداخلية أصدر أمره بإقامة جنازة عسكرية مهيبة له، تقدمها مندوب رئاسة الجمهورية وشيخ الأزهر ورئيس أركان القوات المسلحة ومساعدو وزير الداخلية. ورغم اقتناعى بأن الموت له جلاله، وأن الضابط الشهيد يستحق التقدير، ليس فقط لأنه قتل فى أثناء قيامه بواجبه، ولكن أيضا لأنه كان ضابطا متميزا ترك سيرة عطرة وعرف باستقامته وورعه «كان على موعد مع السفر لأداء العمرة فى اليوم التالى لمصرعه»، إلا أن ترتيب الجنازة على النحو غير المألوف الذى تم ظل جديرا بالملاحظة. الخبر الذى نشرته «الشروق» يوم الجمعة 28/8 بدد الشكوك وأظهر الحقيقة، حين ذكر أن حافلة الركاب التى قتلت الضابط الشهيد تتبع «جهة سيادية». الأمر الذى يؤيد رواية صحيفة الوفد ويكمل الخبر. ذلك أن مهمة الضباط الثلاثة الكبار كانت معاينة المكان تمهيدا لزيارة الرئيس، وأن الحافلة القاتلة تابعة لرئاسة الجمهورية، ولكن وزارة الداخلية حرصت على عدم ذكر الحقيقة فبالغت فى إخراج الجنازة، واخترعت حكاية تسهيل المرور للناس لإخراج الرئاسة كلها من الموضوع. سألت من أعرف فأيدوا ما ذهبت إليه، وعندئذ قلت: طالما أن الأمر ليس متعمدا، ماذا يضير لو أن الداخلية احترمت الحقيقة وذكرتها بشجاعة، ولماذا لم يصدر بيان من رئاسة الجمهورية ينعى الفقيد، ويعتذ عما جرى، ويقرر صرف تعويض مناسب لأسرته عن مصابها الفادح؟ سمعنى صديق فاسكتنى قائلا: كيف تطالب الداخلية بذكر الحقيقة وهى التى احترفت التزوير وأدمنته، وأغلب الظن أن الصيام أثر عليك فطالبت الرئاسة بالاعتذار لأسرة الفقيد وللشعب المصرى الذى فقد فى الحادث واحدا من أبنائه المخلصين.