حديث «الفرص الضائعة» التى أضاعها العرب على مر السنين، بسبب المغالاة فى مطالبهم «غير الواقعية» تجاه صراعهم مع إسرائيل هو حديث شائع، يتجدد لدى كل انعطافة جديدة لعملية «السلام» المستمرة بدون حصاد منذ ما يقرب من عقدين. فهل المشكلة هى «عدم واقعية» العرب؟ وهل تصمد هذه المقولة لأى تحليل جدى لمسيرة المفاوضات العربية الإسرائيلية منذ مؤتمر مدريد فى 1991 والاستراتيجيات التفاوضية للاعبين الثلاثة فى هذه المفاوضات: العرب وإسرائيل والولاياتالمتحدة؟ مناسبة العودة لهذا السؤال، هى الصخب الدائر فى الولاياتالمتحدة حاليا حول إمكانية بدء جولة جديدة من المفاوضات على المسار الفلسطينى، تسبقها إجراءات «لبناء الثقة» قبل التفاوض على القضايا الشائكة تتمثل فى قيام إسرائيل بتجميد الاستيطان، مقابل قيام العرب بتقديم «مكافآت تطبيعية» لإسرائيل. للإنصاف، فإن هذا الطرح الأمريكى ليس سوى أحدث طبعة لنفس الإستراتيجية الأمريكية المعتمدة منذ مؤتمر مدريد قبل نحو عقدين، والتى تقوم على ضرورة إيجاد حلول «واقعية» وفق موازين القوى المختلة بوضوح لصالح الإسرائيليين، وذلك من خلال بعدين: أولا: معالجة الشكوى الإسرائيلية الدائمة مما تعتبره خللا جوهريا فى صيغة «الأرض مقابل السلام»، التى تقايض شيئا ملموسا اسمه «الأرض» بمفهوم غامض اسمه «السلام». يمكن مثلا وفق هذه الصيغة أن يحصل الفلسطينيون على «الأرض» فى يوم معين، فكيف يحصل الإسرائيليون على «السلام» فى نفس اليوم أو اليوم التالى؟ وإذا حصل الفلسطينيون على ثلثى الأرض، فكيف سيعطون فى مقابلها ثلثى السلام؟ وهكذا. هذه هى الشكوى التى يتذرع الإسرائيليون بها للتلكؤ فى تنفيذ التزاماتهم فى أكثر من ست اتفاقات «سلام» وقعت مع الفلسطينيين خلال العقدين الماضيين. كيف استجابت الإدارات الأمريكية المتعاقبة لهذه الشكوى؟ بأن جعلت مفهوم «الأرض» أقل تحديدا، ومفهوم «السلام» أكثر وضوحا. ففتح النقاش مثلا حول السيادة على الأرض أو على ما فوق الأرض (السكان) أو ما تحت الأرض (المياه والموارد الطبيعية)، وقسمت الأرض لمناطق مختلفة («أ» و«ب» و«ج»)، بعضها انسحب منه الجيش الإسرائيلى، والآخر «أعاد الانتشار» فيه، وهكذا. واضطر الفلسطينيون لقبول هذا «التمييع» لمفهوم «الأرض» بدعوى «الواقعية» ومنهج «خذ وطالب». بالمقابل، أصبح «السلام» يعنى تطبيعا اقتصاديا وسياسيا، بإجراءات ومطالب محددة (تبادل تمثيل تجارى ودبلوماسى، منح تأشيرات، حق استخدام المجال الجوى.. إلخ). ثانيا: الالتفاف على كل قضية معقدة (ما يعرف بقضايا «الحل النهائى» كالقدس، والسيادة، واللاجئين.. إلخ)، وتأجيلها لأطول مدى ممكن، والتركيز على إيجاد «عملية سلام مستمرة» بسلسلة لا تنتهى من الاتفاقات المؤقتة وما يسمى بإجراءات «بناء الثقة»، والتركيز فى كل مرحلة على «مطالب واقعية»، بأمل أن «تبنى الثقة» يوما ما بما يكفى لمواجهات أمهات القضايا. فى إطار هذه الإستراتيجية الأمريكية، لم يزد المبعوث الأمريكى جورج ميتشل طوال الأشهر الثمانية الماضية عن المطالبة بتطبيق البند الأول من «خريطة الطريق» التى أعلنها الرئيس السابق جورج بوش فى 24/6/2002، والذى يقوم على مقايضة تجميد الاستيطان بإجراءات تطبيعية «تشجيعية» من العرب باتجاه إسرائيل. بالمقابل، أدرك المفاوض الإسرائيلى أن الإستراتيجية الأمريكية لم تتغير فى جوهرها، ومن ثم لم يحتج لتغيير إستراتيجيته، والتى تعتبر «الواقعية» المطلوبة أمريكيا، أمر لا يخص إسرائيل، وإنما يعنى العرب. العرب وحدهم مطالبون بتبنى مواقف «واقعية»، أما إسرائيل، فيمكنها أن تطرح ما شاءت من «ثوابت» لا يمكنها المساس بها، وإلا سقط ائتلافها الحاكم، وصعد «المتطرفون» لسدة الحكم. وفق المفهوم الإسرائيلى إذن، بات على العرب تحمل مسئوليتهم عن الحفاظ على استقرار الائتلافات الحاكمة فى إسرائيل، وعدم إزعاجها بمطالبات «غير واقعية»! بل وحبذا قدموا بوادر حسن النية، لطمأنة أى طرف إسرائيلى متشكك إلى جدية وصدق نوايا «وواقعية» العرب. وهكذا، بات بإمكان إسرائيل التمسك بصيغ المماطلة التقليدية فى مواجهة أى مطالبة بتجميد الاستيطان (كالتعهد شكليا بتجميد الاستيطان، باستثناء الاحتياجات «الواقعية» لما يسميه الإسرائيليون «بالنمو الطبيعى» للمستوطنات، أو التعهد بوقف الاستيطان الممول مباشرة من الحكومة الإسرائيلية، مع استمرار المستوطنات التى تمول بأموال خاصة، والتى تمثل أكثر من ثلثى المستوطنات، باعتبار أنه من غير «الواقعى» مطالبة إسرائيل بتحمل المسئولية عن ممارسات القطاع الخاص الواقع تحت سيادتها!). وبين الإستراتيجية الأمريكية بعناوينها «الواقعية» التى يستجيب لها العرب بدون إبطاء، وإستراتيجية «التمسك بالخطوط الحمر» المعتمدة إسرائيليا، مرت ثمانية أشهر بدون أى تقدم. وإذ أدرك الجانب الأمريكى أنه لا مجال للتقدم فى تحقيق هدفه «الواقعى» (تنفيذ البند الأول، أكرر، البند الأول فقط، من خريطة الطريق)، قرر أن يجرب «القفز للأمام» من خلال الحديث عن «إعادة إطلاق عملية السلام» وتجديد جولات المفاوضات. غير أن هذه «القفزة للأمام» تمت ضمن نفس التصور الأمريكى «الواقعى». وهكذا، أصبح المطلوب الآن من الجانب الإسرائيلى هو مجرد قبول بدء جولة جديدة من المفاوضات «بدون شروط مسبقة» (اقرا: بدون أى مرجعية ملزمة لقرارات الشرعية الدولية)، تستهدف فى «مرحلتها الأولى» عددا من الإجراءات الإضافية «لبناء الثقة»، كإطلاق «بعض» المعتقلين الفلسطينيين (مع هامش مماطلة إسرائيلى واسع، بدعوى عدم إطلاق من «تلوثت أيديهم بدماء إسرائيليين» أو «تورطوا فى التحريض ضد إسرائيل») وربما تجميد «بعض» المستوطنات. وفى المقابل، على العرب قبول تغيير «المبادرة العربية للسلام» من كونها «لائحة جوائز تمنح لإسرائيل بعد إنجاز الاتفاق النهائى» إلى «فواتح شهية» يمنح القسم الأكبر منها مقدما لإقناع إسرائيل بالمضى قدما فى المفاوضات!. فى مواجهة هذه «القفزة الأمريكية للأمام»، جاء الرد الإسرائيلى بالإمعان فى «عدم الواقعية»، وطرح المطلب العنصرى بضرورة اعتراف العرب «بيهودية إسرائيل» وبالحق الحصرى لليهود فى الإقامة فيها. أما العرب، فيدرسون كيفية بلورة «صيغ واقعية» للتجاوب مع لائحة المطالب الأمريكية، ويحتفلون ويا للدهشة بالفتح المبين الذى قامت به إدارة أوباما بمجرد إعلانها عن أهمية العودة للتفاوض (وهو على أية حال، أمر لم تقبله إسرائيل رسميا حتى وقت كتابة هذه السطور). هل يحتاج الأمر لذكاء خارق لإدراك ما بات واضحا وضوح الشمس: أن مواجهة «التعنت» الإسرائيلى على مدار العقدين الماضيين، «بواقعية متزايدة» من العرب، تبحث بلا كلل عن المزيد من جوائز الترضية وفواتح الشهية لإسرائيل، لم تؤد إلا لفتح شهية إسرائيل للمطالبة بالمزيد من «الواقعية العربية»؟ وهلا تعلمنا الدرس، وأظهرنا قليلا من «التعنت» والتمسك بثوابت ضرورية على رأسها حق عودة اللاجئين (لب القضية)، لمن لم يعد يذكر، والرد الاستراتيجى الوحيد على مطلب «يهودية الدولة» العنصرى)؟ ومن يدرى.. فلعل هذا «التعنت» يصلح بعض ما أفسده عقدان من «الواقعية العربية».