لأن الذي بناها كان في الأصل حلواني،فقد جاء استخدام المصريين للغة الحوار والتواصل مع الناس ابداعا متجددا،لم يرتق لمستواه شعب آخر،فتحول الكلام علي السنتهم الي كائن حي يتنفس نبلا ورقة ويغذيه عقل جمعي بشهد الألفاظ النقية المقطرة والموزونة بميزان الذهب . ولقد اعتاد المصريين أن يمارسوا ابداعهم اللغوي أثناء ممارستهم للأعمال الشاقة، في مراكب الصيد، والزراعة في الحقول، وأثناء صهر الحديد بالورش الصغيرة، والمقايضة بالأسواق وحمل أحجار البناء علي الكتف المجهد. فأفرزت مشقتهم شهد التعبير وسلمته الذاكرة الجمعية لنساء مصر اللاتي أرضعنها للأجيال مع اللبن وحب الوطن. فعند الدعوة للزيارة يقال(امتي تنورونا في البيت) ويرد المدعو(نيجي نبارك في الفرح والهنا) و عند زيارة الأحبة للمنزل (خطوة عزيزة) وان لم تحملهم الأرض (تشيلهم عنينا)وهم يردون علي الترحيب الحار بكلمات أكثر رقة، تسبقها الدعوات الطيبة والبسملة (بسم الله ماشاء الله )ويرد المضيف داعيا للضيف (تسمي علي الكعبة) كناية عن تحقيق أمنية الحج لبيت الله الحرام. يودع المضيف زائريه بجمل تثمن زيارتهم عاليا (ده احنا زارنا النبي)و (حصلت لنا البركة). ومن آداب الحوارالذي سيتناول الموضوعات السارة كالفرح يقال (عقبال العرايس"البنات") و(العرسان"الأبناء") جئنا ندعوكم لكتاب ابنتنا فلانة ،ويرد المضيف (في حياتكم)أي نقيم الأفراح وأنتم سعداء بالحياة. ويقدم المصريون الحب قبل الطعام بمنطق(من حبنا حبيناه وصار متاعنا متاعه) ،فيدعون لآكل طعامهم بالهناء والشفاء "مطرح ما يسري يمري"، ويدعو لهم الضيف (بأن يدوم العزوالخير) كما يتمني لمضيفه أن يكون طعامه للمناسبات المبهجة "عقبال ما ناكل يوم فرح ولدك أو عند رجوعك من الحج أونجاح ابنتك". ولأن أجواء الحوار تكون غاية في الحساسية والنقاءفلايذكر فيها اسم عزيز إلا وقد سبقته دعوات تحفظه من كل سوء(الدلعدي فلانة) أو (الدعا برة فلان)وهي تعبيرات شديدة التعقيد تهدف للتحوط من أن يتزامن نطق الاسم مع انطلاق دعوة بسوء علي شخص آخر،فيخشى الناطق بالاسم من النطق بالاسم مجردا،لذا يحرص علي تغليف الاسم العزيزبدعوات تدفع عنه الدعوة الشريرة فتصبح (الدلعدي) هي اختصار لكلمتين هما(الدعوة للعدو)والدعا برة هي اختصار(الدعوةالشريرة خارج المنزل). وقد تتشابه أسماء الأحبة مع أسماء بعض الأشرارأومن يدنون عنهم في المكانة فيقال لتمييز الاسم العزيز (اسم الله علي الأسامي فلان)وذلك حتي لاتختلط الأسماء علي أذن السامع. و إذا كان الحوار سيتناول الشكوى من الهموم التي يبثها المتحدث لسامعه ،يبدي حرصه البالغ علي الا يتأثرالسامع بأجواءالكآبة التي تسود حديث الشاكي،فيقول (بعيد عنكم الشرعندي مشكلة كبيرة) أو( بعيد عن البيت وأصحابه مانعانيه من ألم) ،وكذلك (ماحدش يشوف ما عانيناه من هموم) ويرد السامع للشكوي بالدعاء "أن يزيح الله عنك الهم "؛ وأن يفتح للشاكي "باب ماعليه بواب" واذن فحتي المعاناة التي تجتاح المصري لاتعيقه عن تحسس كلماته وما قد تحمله من أجواء الكآبة لمن يستمع اليه. ويصل الأمر بالمصري الي ابتكار (فلتر) للكلمات السيئة والتي لاسبيل الي تفادي النطق بها كالابلاغ عن حوادث المرض والموت والكوارث بصفة عامة،فعند الابلاغ عن مرض ألم بصديق يكني عن كلمة المرض بعكسها فيقال( فلان بعافية شوية) وعند الابلاغ بالموت يقال (فلان تعيش انت). ولأن لمصري يتذكر موتاه بالاعزازمع الحرص علي استبعاد ماأصابهم من ان يتكرر مع الأحياء، يقال(أنت والعمر الطويل لك تشبه والدك رحمه الله في كرمه)ويقال(فاتت لك جدتك طول العمرمع طيبة طباعها)و(اللي خلف ماماتش) وينصح المصريون أبناءهم بأن (يحسسوا علي كلامهم)وذلك بأن ينتقوا أرق الألفاظ وأكثرها أدبا ليندمجوا بجدارة في مجتمع يتسامح في الجلسة المعوجة لكنه لايقبل بالكلمة السيئة (اقعد معووج واتكلم عدل)ويحذرونهم من تدني الكلمات لأن (الملافظ سعد) ؛ فاللفظ الراقي علامة علي مكانة صاحبه العظيمة وما تلقاه من تربية عالية. وهكذا استطاع هؤلاء المتحضرون أن يصنعوا من" فسيخ" الواقع الصعب "شربات"اللغة الراقية والتي تحولت علي أيديهم الي رسول الود والحنان في أزمنة أحاطتهم بقسوتها فردوا علي السفهاء ببيت الشعرالشهير: يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا يزيد سفاهة وأزيد حلما كعود زاده الاحراق طيبا أعرف أنني أغرقت في استدعاء الذاكرة الاجتماعية لمجتمع صار يعاني من ضعف الذاكرة، ومن انتشار العنف في الحوارومن تدني قيمة المرأة ومكانتها الاجتماعية،ومن تراجع قيم الرجولة والجدعنة ومن خطاب يدعي التدين في العلن لكي يقضي علي الذاكرة في السر، فيشيع أكليشيهات (جزاك الله كل خير)كبديل لكل الدعوات والأمنيات التي أودع فيها المصريون مخزونهم الأخلاقي من النبل والأريحية. ولاأظن أن المصريين الذين استلهموا في حواراتهم اليومية آيات القرآن وأحاديث المصطفي عليه الصلاة والسلام الا بقادرين علي استرداد قدرتهم الابداعية اللغوية واشاعة الدفء في كلمات تربت علي الكتف المجهد وتحنوعلي القلب الكسيروتشعل الروح الوطنية وتطرب الحس المرهف وتذيب ثلوج الغربة وتعيد الغائب الثقافي والمغترب في وطنه.