هل يصح تصديق الأحاديث التي تروي أن عثمان رأى لحونًا في القرآن وتغاضى عنها؟ وكيف يسعى عثمان إلى جمع القرآن في كتاب لينهي خلاف العرب ثم يترك مادة للخلاف؟ ولماذا نصدق الروايات التي تشكك في صحة جمع الآيات بينما تعهد الله ذاته بحفظ القرآن؟ كُتب الأحاديث تشكك في صحة النسخة المعروفة من القرآن الكريم، مصحف عثمان، قبل اعتماده ونسخه وتوزيعه على الأمصار وإحراق ما يخالفه، ففي كتاب المصاحف لابن أبي داود (عبد الله بن سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني)، باب اختلاف ألحان العرب في المصاحف والألحان واللغات ص227: حديث موقوف، رقم 88، نصه: حدثنا عبد الله، قال: حدثنا المؤمل بن هشام، حدثنا إسماعيل، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي، قال: لما فُرِغَ من المصحف أُتِيَ به عثمان فنظر فيه، فقال: قد أحسنتم، وأجملتم، أرى فيه شيئًا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها. وفي ص230 يقول: حدثنا عبد الله، قال: حدثنا أبو حاتم السجستاني، حدثنا عبيد بن عقيل، عن هارون، عن الزبير بن خريت، عن عكرمة الطائي، قال: لما أتى عثمان رضي الله عنه بالمصحف رأى فيه شيئًا من لحن، فقال: لو كان المملي من هذيل، والكاتب من ثقيف، لم يوجد فيه هذا. و(هذيل) التي يقصدها سيدنا عثمان هي قبيلة من قبائل خندف من العرب المضرية، تسكن في الحجاز غرب الجزيرة العربية، وهم بنو هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وأقرب القبائل نسبًا لها هي قبيلة كنانة التي من فروعها قبيلة قريش، وقبيلة بني أسد ويليهم في القرابة قبيلة بني تميم وقبيلة مزينة. أما (ثقيف) فهي قبيلة تقيم منذ ما قبل الإسلام إلى اليوم في الطائف وما حولها غرب الجزيرة العربية، وهي إحدى قبائل قيس عيلان المعروفة بالقبائل القيسية. والحقيقة أن التشكيك استبق النتيجة النهائية، فهناك اختلافات كثيرة –سنأتي لها لاحقًا- حول تشكيل اللجنة التي جمعت القرآن وجدارتها، وحول طريقة عملها، الأمر الذي يترك انطباعًا لدى الدارس والقارئ أن ثمة اختلافات في الجمع مسكوتًا عنها، وأن الكتاب بشكله النهائي هو أفضل الصيغ الممكنة وليس هو الجامع للتنزيل الكامل والدقيق، وفي تلك الأحاديث التي أوردها ابن أبي داود اعتراف شافٍ من عثمان بن عفان نفسه بأن ثمة لحون في الكتاب، وأنه رآها، وبدلًا من الأمر بتصحيحها والتثبت من أصلها عند أكثر من مصدر، كما كانت تفعل اللجنة أصلًا، فقد قبل بها وقال إن ألسنة العرب ستقيمها في المستقبل، أي ستصححها، والأغرب في الرواية أنه –رضي الله عنه- كان يعرف القبائل التي تروي بالشكل السليم، هذيل وسقيف، لكنه ارتضى الخطأ، وهو ما لا يمكن أن يصدقه العقل السليم، إذ لسنا بإزاء كتاب عادي من كتب الناس، لكننا إزاء كتاب الله الذي أوحى به إلى رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم، علاوة على أنه الكتاب الخاتم للرسالات السماوية جميعًا، ومن الطبيعي والحتمي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يعرف ذلك، ويقدر قيمة خروج الكتاب دون لحون، فكيف إذن يرى اللحون ويتغاضى عنها؟ الرواية الأغرب وردت في كتاب "فضائل القرآن" للقاسم بن سلام، حديث موقوف رقم 615، نصه: حدثنا حجاج، عن هارون بن موسى، قال: أخبرني الزبير بن خريت، عن عكرمة، قال: لما كُتبت المصاحف عرضت على عثمان، فوجد فيها حروفًا من اللحن، فقال: لا تغيروها فإن العرب ستغيرها، أو قال: ستعربها بألسنتها، لو أن الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم يوجد فيه هذه الحروف. وهذه الرواية بشكلها الأخير وردت في أكثر من مصدر، وقال السيوطي إن إسنادها صحيح، وغرابتها أن عثمان منع التصويب وترك ذلك للعرب، وهو ما لا يستقيم من أنه أمر بالمصاحف الأخرى وأحرقها حتى لا يكون أمام العرب إلا كتاب واحد مجمع عليه، وأظن أنه لم يغب عن حصافته أن العرب لن تتجرأ على التدخل في الكتاب بعد ذلك، فقد كان حاضرًا في أذهانهم اتهام النصارى بتحريف كتابهم الذي ورد بالقرآن في غير موضع، ولهذا فضلوا أن يتركوا اللحون كما جاءتهم، بل ويجتهدوا لتبريرها في بعض الكتابات. والحقيقة أن كثيرًا من الكتابات ضعَّفت هذه الأحاديث –وهو الأقرب للمنطق- لأسباب متعددة: منها الانقطاع بين عكرمة وعثمان بن عفان، وكذلك بين عثمان ويحيى بن يعمر، كما أن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر لا يوجد توثيق له من أحد من أهل العلم، هذا غير أن تلك اللحون كانت موجودة في جميع المصاحف قبل الجمع، على ما روي، ثم إن عثمان قد جمع القرآن كي يزيل الخلاف بين القرَّاء، فكيف يمكن أن يصنع خلافًا جديدًا يقلل من مصداقية الجهد الكبير الذي قام به كي يترك للمسلمين كتابًا واحدًا معتمدًا، اجتهد كي يوفر له كل أسباب الصحة؟ كل هذه الأسباب، وغيرها، تجعلنا نميل إلى عدم صحة الأحاديث التي أوردت هذه الرواية، وهي كثيرة ومنتشرة في أكثر من مصدر، لأنها –في الأغلب- يشوبها معظم ما يشوب الروايات المتواترة من ضعف ونسيان وخلط بين ما لا يختلط وتحريف وميل حسب الهوى وتدخل السياسة والقبلية.. إلخ، لكن يظل العمل الذي قام به عثمان من جمع للقرآن وتوحيده في كتاب واحد وإتلاف ما دونه، من أهم الأعمال التي حدثت في التاريخ الإسلامي بعد وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لأنه وحد لسان العرب، وأنهى الاختلافات في القراءات، وقطع الطريق بشكل كامل ونهائي على اتساع الفجوة بين القراءات، الذي كان من الممكن أن يضيِّع الرسالة جميعها. الهوامش: أبو بكر بن أبي داود: أحد علماء المسلمين من القرن الثالث الهجري، اهتم بسماع الأحاديث والآثار وكان شديد الحرص على كتابة ما يسمعه، صاحب والده أبو داود الذي طاف به شرقًا وغربًا في رحلة طلب العلم من سجستان إلى فارس مرورًا بالعراق إلى الشام فالجزيرة العربية ومصر، حيث سمع من تلك الأمصار من علماء ذلك الوقت. القاسم بن سلام: أبو عبيد الله بن سلام الهروي )157- 224 هجرية(، عالم لغة وفقيه ومحدث وإمام من أئمة الجرح والتعديل، عاش في القرنين الثاني والثالث الهجريين، وترك عددًا من الكتب، أشهرها: "الغريب المصنف"، و"غريب الحديث"، إضافة إلى كتاب "الأموال" الذي يعد من أمهات الكتب في الاقتصاد الإسلامي.منها عن جريدة "المقال" المصرية