و عاش فى القصر . . . . . . وحيد اً ! ! ج2 غافلها . . ودخل إلى قلبها على حين غِرة . . مَرق إلى القصر بدون أن تدرى ، وفرح لمجيئه حراس القصر فتركوه ورحلوا . . فرحوا بأن القصر – أخيراً – قد أصبح فيه سيده ، وما عادوا يشعرون بأن صاحبة القصر فى حاجة إليهم . . دخل إلى بستان القصر ، ورحبت به كل الورود والزهور والرياحين ،وشدت له كل الطيور ، وزقزقت له كل العصافير . . سكن القصر ولم يكن يدرك أن لصاحبته رأياً آخراً ، أنها أقسمت ألا تدعه يسكن قلبها وقصرها بعد اليوم ، بعد أن خانها الجميع من حولها وغدروا بها ، حتى حراسها تركوها ورحلوا ، وحتى قلمها رفيق السنين ، فرح لما علم أنها ما مزقت الرسالة ، وأنها ما ألقت بها فى صندوق القمامة ، وإنما وضعتها بيدها الجميلة فى صندوق ا لبريد ، ليتسلمها ساكن القصر ويقرأ ما بها ، ويعلم أنها ما أحبت قط سواه ، وما مالت نفسها إلا إلى هواه . . غلبتها مشاعرها نحوه ، وهزمها حبها إليه ، وغاب عنها عقلها لحظة أن إمتدت يدها لتضع رسالتها فى صندوق البريد ، حتى عيناها ، أغمضت الجفون ، وما أبصرت الصندوق . ولكنها الآن أفاقت لنفسها ، وذهبت عنها الغفلة ، وإستردت وعيها ، وأقسمت بأنها مهما كلفها الأمر ، سوف تخرجه من القصر ، ولن تدعه يستولى على قلبها وقصرها . . إنها ليست فى حاجة إليه ، إنها هكذا مرتاحة البال ، تنام الليل وتحيا النهار ، ما لها والحب والغرام والهيام ، سيرة العاشقين يرويها التاريخ على مر الزمان ، كلها فراق وحنين وألم وعذاب . . قالت لنفسها : دعيه وحيداً فى القصر ، سجيناً بين جدرانه يُحدِث نفسه ، حتى يضيق به القصر ويصيبه الجنون ، فيلملم بقاياه ويرحل . ظل ساكن القصر يراوده الأمل بأنها يوماً سوف تأتيه ، سوف تشتاق إليه ، سوف تدخل قصرها ، لتعيش معه فيه ، وينعما معاً بحياة جميلة وسعيدة . . إنه كان يُمَنى نفسه ، ولكن . . هل كل ما يتمناه المرء يدركه ؟ ؟ قطعاً . . لا . . ولكن هكذا حال المحبين ، لا يصيبهم اليأس أبداً . مرت الأيام تلو الأيام . . وساكن القصر يستيقظ كل صباح ، مع إشراقة شمس يوم جديد ، فيفتح النوافذ ليدخل الهواء والنسيم ، ويتسلل الضياء إلى باحة القصر وكل جنباته ، ثم يمضى إلى حيث بستان القصر ، يروح ويغدو فيه ، تتمايل وتتبختر من حوله الورود والأزهار ، والفروع والأغصان ، وكأنها تغنى معه أنشودة الصباح ، وسط شدو الطيور وزقزقة العصافير . . وتمضى الأيام وصاحبة القصر ما جاءت إليه ، صاركل يوم يشبه سابقه فى أعين ساكن القصر . . . وذات صباح ، خرج ساكن القصر إلى البستان ، أحس أن الحال تبدل إلى حال ، وقعت عيناه على الورود والأزهار والفروع والأغصان ، وجدها ما عادت تتبختر ولا تتمايل ، تساءل : ماذا ألم بها ؟ لقد كانت تتمايل طرباً عندما ترانى ، ما لها ساكنة هكذا ؟ وأين شدو الطيور وزقزقة العصافير ؟ أين ذهبت الطيور وراحت العصافير ؟ لقد كانت تملأ السماء تحليقاً بجناحيها ، وتملأ البستان شدواً وغناءً . . ما عادت الطيور ولا العصافير تقترب من القصر ، إنه يراها بعيداً فى الأفق البعيد ، ولكنها ما عادت تقترب من القصر ، تُرى ماذا حدث ؟ وأى شئ منعها من المجئ إلى القصر ؟ وأين ذهب النسيم العليل هو الآخر ؟ إنه ما عاد يملأ باحة القصر عِطراً ؟ مضى ساكن القصر إلى داخله ، والألم والحزن يعتصران قلبه وكيانه ، والحيرة تكاد تفتك بعقله . . كلما وقعت عيناه على شئ فى القصر ، وجده قد تغير وتبدل ، ما عاد شئ كما كان بالأمس . . جلس إلى جوار إحدى نوافذ القصر ، يُحدِث نفسه وتحدثه ، يتعجب ويُبدى دهشته لما حدث ، ظل يُفكر ويُفكر ويُفكر . . وبينما هو على هذا الحال ، ينظر من النافذة ويتأمل السماء ، رأى عصفوراً قادماً فى الأفق من بعيد ، قاصداً ناحية القصر ، تعجب لأمر ذلك العصفور ، الذى حلق منفرداً تاركاً بقية العصافير تجاه القصر ، إقترب العصفور وظل يحوم حول النافذة التى يجلس بجوارها ساكن القصر ، راح العصفور وجاء ، ثم راح وجاء ، نظر إليه ساكن القصر وتعجب من أمره . . إقترب العصفور من النافذة ، ثم وقف على حافتها وطوى جناحيه ، يتطلع إلى ساكن القصر ، وكأنه يرثى لحاله ، ويشفق عليه مما هو فيه . . ودار بينهما حديث : سأله ساكن القصر : ماذا أتى بك أيها العصفور إلى هنا ؟ أجبنى ! ! رد العصفور قائلاً : وماذا أتى بك أنت إلى هنا ، أيها الساكن الجديد ؟ قال ساكن القصر : أردت أن أكون بجوارها ، أن أدخل قلبها ، وأسكن فى قصرها . . إنى أحبها ! قال العصفور : ولكنها لا تريدك فى قلبها ، إنها لم تدع أحداً يسكن قصرها من قبل ، لماذا دخلت عُنوة ؟ قال الساكن : أردت أن أعيش الحياة معها ، فى قربها ، أريد قلبها الطيب وقصرها الجميل قال العصفور : ولكنها لا تريد أن تعيش الحياة مع أحد . . إنها تريد أن تحيا وحيدة ، دعها وشأنها سأل الساكن : وأين بقيتكم من الطيور والعصافير ؟ قال العصفور : لقد رحلنا جميعاً إلى حال سبيلنا ، ولم يبق إلا أنت ، لم نعد نحوم حول القصر ، بعد أن أيقنا أنها لا تريد نا ، تركنا لها قصرها وبستانها ، وبحثنا عن قصر آخر وبستان آخر ، الدنيا تملؤها القصور وتزدحم بها البساتين ، مالنا وقصرها وبستانها ! ! سأل الساكن : وهل كنتم هنا قبل أن أدخل القصر ؟ قال العصفور : لا . . لم يكن هنا أحد سوى حراس القصر ، لقد جئنا معك ، أغريتنا أنت بالحياة والشدو والغناء ، وأوهمنا نحن أنفسنا بأن لنا حياة فى ذلك القصر . . قبل مجيئك لم يكن فى القصر ما يُغرينا ، حراسه واجمون ، نوافذه مغلقة ، أبوابه موصدة ، وروده وزهوره ورياحينه ذابلة ، فروعه وأغصانه جامدة لا تتمايل . . أنت أتيت فأتت معك الحياة ، فجئنا إلى القصر لنحيا . سأل الساكن : وما الذى أتى بك مرة أخرى ؟ قال العصفور : نشفق عليك ونرثى لحالك ، أرسلنى كبيرنا كى أنصحك بأن ترحل ، نحن أحببناك ولكنها لم تحبك ، ولا ترغب فى قربك ، ولا تريد لك أن تدخل قلبها ولا أن تسكن قصرها . . أما نحن فلا نرضى لك أن تضيع أيامك ولياليك هنا وحدك ، نحن وأنتم لا نعيش إلا مرة واحدة ، صحيح أعماركم أطول من أعمارنا ، ولكنها لنا جميعاً حياة مرة واحدة ، فلا تضيعها على أمل لن يتحقق ، ورجاء لن تلبيه لك . . لقد أقسمت ألا تدعك تسكن قصرها ، ولقد سمعناها جميعاً تقسم وتقسم وتقسم . قال الساكن : وماذا أفعل إذن ؟ قل لى ؟ قال العصفور : أترك هذا القصر وإرحل فوراً ، إنه قصرها ، دعها تهدمه فوق رأسها ! ! قال الساكن : ومن يا تُرى سوف يسكنه بعد أن أرحل منه ؟ قال العصفور : لا أحد . . لا أحد . . إنها تريده خَرباَ ومظلماً ، تريده بلا روح ولا حياة ، عاشت هكذا فيه لسنوات وسنوات ، مالك أنت وهذا القصر ؟ سوف يضيع عمرك فيه ولن تجنى شيئاً سوى الهم والغم . قال الساكن : وهى . . هل أتركها وحيدة ، وأذهب بعيداً ؟ قال العصفور ( ناصحاً ) : أنج بنفسك ، إنها لا حياة فيها ولا معها ، إنها كانت تمثل فى نظرنا قبل مجيئك الجمود والموت ، كنا نحلق بعيداً عنها وعن قصرها ، ما آتينا إلى هنا إلا معك ومن أجلك . . إننا نعشق الحياة مثلك ، ونعشق الشدو والغناء ، وهى بلا حياة ولا شدو ولا غناء ، فرحلنا . قال الساكن : ولكنى أحبها ، وقلبى متعلق بها ، إنها توأم روحى وقلبى ، أخشى أن يُصيبنى الجنون إن بعدت عنها . قال العصفور ( راجياً ) إسمع نصيحتى ، إذهب بعيداً عنها وأحبب من شئت غيرها ، إنهن كثيرات ، القلوب كثيرة والقصور عديدة ، لن تجد الحب معها ، وسوف تدمى قلبك بسببها ، إن ظللت بجوارها لن ينالك إلا التعاسة والشقاء ، وأنت نقى ، طيب القلب ، لا تعذب نفسك ، ولا تلقى بها إلى التهلكة ، صدقنى إنها الهلاك والفناء ، لقد أحببناك ومن أجل ذلك جئت إليك . قال الساكن : أتركنى وأرحل أيها العصفور الشقى ، إنك تريد أن تحرمنى منها وتبعدنى عنها ، إنكم تكرهونها ، ومن أجل ذلك تتمنون لها التعاسة والشقاء ، طِر حالاً وأغرب عن وجهى ! ! قال العصفور ( حانقاً ) : تباً لك من شخص غريب ، أأقطع كل هذه المسافات ، وآتيك برسالة نُصح ونجاة وأنت لا تستجيب ؟ تباً لك ألف مرة . . إنك تسعى إلى الهلاك ، و لن تدرك نصيحتى إلا بعد فوات الأوان ! ! وعندئذ . . إستدار العصفور ، ورفرف بجناحيه إستعداداً للطيران ، وهو يردد ويقول : تباً له ، إنه يسعى للهلاك ، ولن يدرك نصيحتى إلا بعد فوات الأوان . . إنها لن تدعه يسكن قصرها مهما كان . . وسوف تقتله إذا إقتضى الحال ، إنها شقية لا تبغى الحياة ، ولن يناله منها إلا العذاب " ! ! وعلى الفور . . إمتدت يد ساكن القصر إلى النافذة فأغلقها ، ثم أغلق كل نوافذ القصر ، وأوصد أبوابه عليه وهو بداخله ، كى لا يسمع صوت عصفور آخر يدعوه إلى الرحيل . . صحيح هى ما جاءت لترحب به فى القصر . . وصحيح أن كل الطيور والعصافير والورود والرياحين أدركت أنها لن تدعه يسكن القصر ، ولكنها أرسلت له رسالة تخبره فيها بحبها له ، و تبوح له بمكنونات صدرها ، وتدعوه إلى أن يظل فى القصر . إنه لا يدرك أنها ما أرادت أن ترسل الرسالة ، ولا يدرك أن الرسالة ما كانت لتصل إليه لولا أنها أخطأت صندوق القمامة ، ولا يُدرك الحديث الذى داربينها وبين قلمها ، ولا يدرك أن نصيحة العصفور له بالرحيل عن القصر هى الصواب . . . عناده أودى به إلى الهلاك . . فقد قرر أن يبقى فى القصر ، مهما طال الزمان ، لعلها إليه تميل ، أو يرق قلبها لحاله فترنو إليه . . وإلى أن يحدث ذلك سيظل ساكن القصر فى القصر وحيداً ! ! وإلى لقاء مع الجزء الثالث إن شاء الله . ( هذه القصة حازت على جائزة الإبداع . . فى المسابقة الثقافية . . فى منتدى الأدباء العرب عام 2011م ) .