أسعدني أنني وجدت مجموعة قصائد عن النيل مجمعة ومترجمة في كتاب واحد للمترجم حسن حجازي. وربما اكثر ما شد انتباهي هي القصائد التي قرضها ثلاثة شعراء من العصر الرومانسي وهم (بيسري بيش شيلي) المتوفى 1822م، و(جون كيتس) المتوفى 1821، و (جيمز لي هانت) المتوفى 1859. ومن المثير للعجب أن هؤلاء الشعراء كتبوا قصائدهم المنشورة في هذا الكتاب من خلال مسابقة مفتوحة بينهم،[1] وأنهم يجمعهم نفس المنتدى الأدبي.[2] وقد سجل شيلي انه في يوم 4 فبراير 1818م تجمع الثلاثة شعراء في منزل هانت وتسابقوا فيما بينهم في كتابة (سونيتة) وهي القصيدة من 14 بيتا خلال وقت محدد هو 15 دقيقة، وكان الموضوع هو نهر النيل. لم يستطع هانت أن ينهي القصيدة في الوقت المحدد فيما استطاع زميلاه.[3]وهذا دليل على كونهما لديهما رؤية واضحة عن النيل وما يمثله، وكذا يدل ذلك على أن الفكرة الرومانسية في الشعر هي أن كتابة الشعر بمثابة "فيض تلقائي لمشاعر قوية" كما وصفها (ويليام ووردزوورث).[4] وبالفعل فإن هذه القصائد بلغتها الأصلية كانت على طريقة السونيتة الإيطالية البتراركية، التي تتكون من قطعة من ثمانية أبيات تليها قطعة من ستة أبيات ذات قافية مختلفة، وهذا التقسيم يدعو القارئ نوعا ان يقرأ الجزء الآخير باستقلالية عن الجزء الأول وكملخص للقصيدة ككل. وسيرى المتأمل ان القطعة الاخيرة لكل الشعراء قد اشتركت في ربط النيل بالعلم، وعلى وجه التخصيص يكتب شيلي: Beware O Man–for knowledge must to thee Like the great flood to Egypt, ever be–[5] ويسطر كيتس: ‘Tis ignorance that makes a barren waste Of all beyond itself[6] وحجازي المترجم يلقي الضوء على فهمه الخاص لما قرضه شيلي في الأبيات المذكورة، حيث ينهي ترجمته ببيت إضافي هو: ملبدة ً بالشرِ ِ أو حافلة ً بالخيرِْ ومن الواضح في هذه الترجمة أن المعرفة الإنسانية مثلها مثل فيضان النيل كمصدر للخير أو للشر. وفي هذه العصور التي زاد فيها تلوث النيل فإن هذا التعبير الأخير يحمل في طياته حدة لاذعة. ورغم ما حدث في مصر من تطور وتقدم صناعي إلا أن حال النيل في تدهور مستمر. ولعله توجد إشارة ضمنية من كون شيلي كان شاعرا في العصر الرومانسي في أوائل القرن التاسع العشر وهو زمن تأجج الثورة الصناعية الانجليزية، حيث كان تلوث البيئة مرتفعا.ورغم ان النقاش الدائر حاليا هو حول مياه النيل بين دول حوضه، إلا إننا لا يجب ان نغفل ان النيل في مصر مسؤولية كبيرة، حيث تقول الدراسات ان أغلبية الصرف الصحي الذي يصب في النيل هو في منطقة شمال مصر.[7] والنهر في قصيدة شيلي يحذر من التجاوزات الشاملة لطموحات الانسان.[8] وهذا يتضح اكثر في الأبيات الآتية: That soul-sustaining airs and blasts of evil And fruits and poisons spring where'er thou flowest[9] فالنيل ينتج حضارة مزدهرة ويفسدها في نفس الوقت،[10] كما أن النيل اليوم يفرق من يتمنى ازدهار مصر ومن هو غير مبال. ونلاحظ ان حجازي يترجم مستخدما أدوات العطف كثيرا، وهذا يعطي شعوراً بالماء المتدفق وكيف أن النسمات والعواصف والفاكهة والسموم متواجدة في وقت واحد: أن النسماتِ الروحية الجليلة وعواصفَ الشرِ الكريهة والفاكهة البديعة , والسموم المُميتة كلها تجري حيثُ تمضي هنا نلاحظ تشابك المسؤولية والعلم، وأرى أنه عندما يبحث الإنسان عن علم زائد قد ينسى مسؤولياته. ونلاحظ أن الشاعر شيلي قرن بين الفاكهة والسموم، وهي بمثابة تذكرة أن العلم قد يكون شيئا إيجابيا ولكن الطموح الزائد قد يؤدي به إلى الانهيار. فالفاكهة تذكير بقصة آدم وحواء في التراث الديني، حيث أن طموحاتهما الزائدة أدت إلى أن يأكلا من "شجرة المعرفة المحرمة" وأن يتنكرا لعلمهما الأصلي.وكما أن مياه النيل المحببة قد تتحول إلى فيضان مكروه، فالفاكهة قد تتحول إلى سموم.وماء النيل الصافي هو حرفيا يؤدى إلى إثمار الفواكه، ولكن الطموحات الزائدة التي صنعت التلوث البيئي أدت إلى أن يصير الماء عبئا صحيا. فيما يتعلق بالشاعر كيتس فإن تعريفه للجهل في مجرى حديثه عن النيل هو عدم استخدام مائه لإخصاب الأرض القاحلة. وهذه إشارة أخرى لمسؤولية الانسان. فهو الجهلُ الذي جعلَ تلكَ المساحات القاحلة الصفراء تمتدُ طويلا ً طويلا ومن الجدير بالإشارة أن كيتس في "قصيدة الجرة الإغريقية" سنة 1819، كتب على لسان من يصف جمال الجرة وما عليها من رسومات عن الطبيعة والعشاق والأنغام، وهذا الواصف وقع في التناقض بين فرحه بالجرة وحزنه لعدم حياة الصور. وأكثر ما يلفت النظر أنه ينهي القصيدة بأبيات مبهمة هي: "Beauty is truth, truth beauty," – that is all Ye know on earth, and all ye need to know [11] التي اترجمها كالتالي: الجمال هو الحقيقة، الحقيقة جمال – هذا كل ما تعرفون في الأرض، وكل ما تحتاجون معرفته في الظاهر أن كون الجرة جمادا يقلل من جمالها، وقد يكون جمالها هو سبب صدقها. ومن ناحية أخرى يبدو أن تحقيق الجمال والحب اللذين ترمز لهما الجرة ليس بالضرورة أن يكون شيئا إيجابيا لما يحتاجه من عمل ومعاناة ومسؤولية.وبالنظر أنهذا الشعر عن النيل كتب من مائتي سنة، فيمكن تشبيه الحقائق الثابتة فيه بجمال الجرة، لكن هذا النهر حقيقة واقعة ملموسة وهذا يجعله جميلا ولكن في نفس الوقت نرثي لحاله ونحزن لتقاعسنا.إننا بصدق نستشعر من قراءة الديوان عظمة النيل بطريقة لا نشعر بها في حياتنا اليومية، وفي المقام الأول فإن الديوان يذكرنا بالقيمة الكبرى لهذا النهر العظيم في حياتنا. الدكتور اسلام عيسى حاصل على دكتوراه في الأدب الإنجليزي من جامعة برمنجهام بالمملكة المتحدة ويعمل محاضر في الأدب الانجليزي بنفس الجامعة [1]Stephen Gray, ‘Keats to Ritchie', The Keats-Shelley Review 24.1 (2010), p. 30. [2]Jeffrey Cox, Poetry and Politics in the Cockney School: Keats, Shelley, Hunt and their Circle (Cambridge: Cambridge University Press, 1998). [3]The Complete Poetry of Percy Bysshe Shelley, ed. Donald Reiman, Neil Fraistat, and Nora Crook (Baltimore: John Hopkins University Press), p. 551. Quotations from the poem are from this edition. [4] William Wordsworth, ‘Preface to Lyrical Ballads (1800/1802)', in Wordsworth & Coleridge: Lyrical Ballads & Other Poems (Chatham: Wordsworth Library, 2003), pp. 8, 21. [5]Percy Bysshe Shelley, ‘To the Nile', ll. 13-14. [6]John Keats, ‘To the Nile', ll. 10-11.Quotationsfrom Keats's poetry are from The Poems of John Keats, ed. Paul Wright (Ware: Wordsworth Library, 2001). [7]Mostafa El-Sheekh, ‘River Nile pollutants and their effect on life forms and water quality', The Nile (2009), pp. 395-405. [8] Michael Rossington, ‘Shelley and the Orient', The Keats-Shelley Review 6.1 (1991), pp. 18-36 (25). [9]Shelley, ll. 11-12. [10]Rossington, p. 26. [11]John Keats, ‘Ode on a Grecian Urn', ll. 49-50.