سيبويه وبعض المسائل الفقهية بعض مسائل العبادات مسح الرأس في الوضوء مسح الرأس: هو الفرض الرابع من فروض الوضوء، والمسح لغةً: تحرك العضو الماسح ملتصقًا بالعضو الممسوح، ومنه القول: مسحت رأس اليتيم، إذا أمررت اليد على رأسه؛ وهي ملتصقة به[1]، ومسح الرأس في الوضوء: تحرك اليد أو اليدين المبتلتين بالماء ملتصقتين بشعر الرأس، والفارق بين التعريفين هو إضافة الابتلال بالماء في التعريف الثاني، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ [المائدة: 6]، فقد أضاف سبحانه (الباء) إلى (رؤوسكم)، ولم يقل: وامسحوا رؤوسكم[2]، وقد اختلف اللغويون والفقهاء في معنى "الباء"؛ هل هي للإلصاق أو زائدة، فيلزم بذلك مسح جميع الرأس؟ أم هي للتبعيض فيجزئ مسح بعض الرأس؟ فقد ذهب العكبري إلى أن "الباء" في قوله تعالى: ﴿ بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ [المائدة: 6] زائدة، حيث يقول: "وقال من لا خبرة له بالعربية: الباء في مثل هذا للتبعيض، وليس بشيء يعرفه أهل النحو"[3] يرى العكبري أن الباء هنا ليست للتبعيض، وهذا لا يعني أنه ينكر أن التبعيض من معاني الباء على العموم. وقال الزمخشري: "المراد إلصاق المسح بالرأس، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه، وقد أخذ مالك بالاحتياط، فأوجب الاستيعاب، أو أكثره، على اختلاف الرواية، وأخذ الشافعي باليقين، فأوجب أقلَّ ما يقع عليه اسم المسح، وأخذ أبو حنيفة ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما روي: (أنه مسح على ناصيته)[4]، وقدَّر الناصية بربع الرأس"[5]. وتعقبهم ابن برهان بقوله: من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه، وأنكره سيبويه[6]، وقال القرطبي: "الباء للتعدية، يجوز حذفها وإثباتها، كقولك: مسحت رأس اليتيم، ومسحت برأسه"[7]، وقال ابن قدامة: "الباء للإلصاق، فكأنه قال: وامسحوا رؤوسكم؛ أي: امسحوا جميع الرأس"[8]. وقال الشافعي: احتمل قوله تعالى: ﴿ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ [المائدة: 6] جميع الرأس أو بعضه، فدلت السنة على أن بعضه يجزئ[9]، وقد قال بعضهم: إن الباء للتبعيض في قوله تعالى: ﴿ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ [المائدة: 6]، وقالوا: غلط، والباء هاهنا صلة لتعدية الفعل؛ قاله الخطابي. وقال الماوردي: الباء موضوعة لإلصاق الفعل بالمفعول؛ كقولك: مسحت يدي بالمنديل، وكتبت بالقلم، وقد تستعمل في التبعيض إذا أمكن حذفها؛ كقوله تعالى: ﴿ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ [المائدة: 6]؛ أي: بعض رؤوسكم، وهو حقيقة في بعض أصحاب الشافعي، مجاز في قول الأكثرين[10]. ولكن الباء ترد لمعانٍ أعمها الإلصاق، فقد قيل: إنه معنى لا يفارقها أبدًا، ومِن ثَم اقتصر عليه سيبويه[11]، حيث يروي عنه الحطاب الرعيني (ت 954ه): الباء للتأكيد، كأنه قال: امسحوا رؤوسكم نفسها[12]. ويقول ابن هشام الأنصاري: الإلصاق هو: مطلق التعليق، وهذا المعنى أصل معانيها، لا يفارقها، يؤيد هذا قول سيبويه: وإنما هي للإلصاق والاختلاط... وما اتسع من هذا في الكلام فهذا أصله... وأثبت مجيء الباء للتبعيض الأصمعي، والفارسي، والقتبي، وابن مالك، والكوفيون، واستدلوا بالآية التي تلاها المؤلف، وبقوله تعالى: ﴿ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ [المائدة: 6]، وعلى هذا بنى الشافعي مذهبه في أن الواجب في الوضوء مسح بعض الرأس "[13]. مما سبق يتجلى لنا اهتمام الفقهاء بما أورده سيبويه، ومما لا شك أن رأيه أثَّر في توجيههم الفقهي. [1] ينظر: الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي، لمصطفى الخن، ومصطفى البغا، وعلي الشربجي، دار القلم، دمشق، الطبعة الرابعة، 1413ه/ 1992م (1/ 46)، والفقه على المذاهب الأربعة، لعبدالرحمن الجزيري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1424ه/ 2003م (1/ 66)، وأنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء، للقونوي، تحقيق: أحمد بن عبدالرزاق الكبيسي، دار الوفاء، جدة، الطبعة الأولى، 1406ه (1/ 60). [2] الجامع لأحكام الصلاة، لعويضة (1/ 380)، وينظر: البحر الرائق، لابن نجيم الحنفي (1/ 193)، واللباب في شرح الكتاب، لعبدالغني الغنيمي، تحقيق: محمود أمين النواوي، دار الكتاب العربي، بيروت (1/ 6)، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين الكاساني، دار الكتاب العربي، بيروت، 1982 (1/ 3)، وبداية المبتدي في فقه الإمام أبي حنيفة، للفرغاني، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح، القاهرة (1/ 3)، وتحفة الفقهاء، للسمرقندي، دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية 1414ه/ 1994م (1/ 30). [3] إملاء ما مَنَّ به الرحمن، للعكبري، دار الفكر، بيروت، 1986م، (ص 215). [4] الحديث أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (20/ 428) رقم (1036)، وفي سنن الترمذي (1/ 170) رقم (100). [5] الكشاف، للزمخشري (1/ 596). [6] ينظر: المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، لابن قدامة المقدسي، دار الفكر، بيروت، الأولى، 1405ه (1/ 141)، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي، للزركشي المصري الحنبلي، قدم له ووضع حواشيه: عبدالمنعم خليل إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1423ه - 2002م (1/ 40). [7] تفسير القرطبي (3/ 351)، وينظر: فتح القدير (2/ 25)، وفتح البيان في مقاصد القرآن، للقنوجي، قدم له وراجعه: عبدالله بن إبراهيم الأنصاري، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، صيدا، بيروت، 1412 ه / 1992 م (3/ 361). [8] المغني، لابن قدامة (1/ 141). [9] الجامع لأحكام الصلاة، لعويضة (1/ 380). [10] ينظر: قواطع الأدلة في الأصول، للسمعاني (1/ 28). [11] الأشباه والنظائر، للسبكي (2/ 216)، وينظر: مغني اللبيب، لابن هشام (1/ 137)، وحاشية الصبان، لمحمد بن علي الصبان الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1417 ه / 1997م (1/ 228)، وكتاب الكليات، لأبي البقاء الكفوي، تحقيق: عدنان درويش، ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1419ه / 1998م (1/ 336)، واللباب في علوم الكتاب، لأبي حفص الدمشقي الحنبلي (7/ 221). [12] ينظر: مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل، للحطاب الرعيني (2/ 153). [13] أوضح المسالك (1/ 183)، وينظر: الكتاب (4/ 217)، والأصول، لابن السراج (1/ 413)، والجنى الداني، للمرادي (1/ 4).