تلك النسائم العابقة صباحا من طابون الجارة أم محمد، وهي تعد الخبز المغمس بالزيت والزعتر، قادتني خلسة إليها، وقفت بباب الطابون، تأكل عيناي الخبز، فيسيل لعابي وأنا أختلس النظر إلى يدها التي تلفه بخفة وتفرده في قعرالطابون الذي غطاه "الرظف" المجمّر ، ما زلت ارقبها وهي تزيل تلك الاحجار الصغيرة بخفة عن رغيف الخبز الذي اخرجته تواً ،تحين منها التفاتة، تلحظني أحملق بما بين يديها ، تمسك خرقة تمسح وجهها المتصبب عرقا، تبتسم بحنان، وتقسم كسرة من الخبز، تلفها، تبرق عيناي ابتهاجا، تتلقفها شهيتي قبل يدي، و تنفرج شفتاي بامتنان وخجل، أبدا بالتهامها وأعود أجلس على عتبة البيت أتأمل ذلك الشارع المكتظ فجرا، ووقع حوافر الماشية المتزامنة مع سيفونية الأجراس المعلقة في أعناقها. قهقهاتنا ونحن نمتطي تلك العصي المختلفة المسميات"عِبِّية وجِدّادَة وطاروش" المتفاوتة الأحجام طولا وسماكة . نلكزها بأيدنا ونصهل وننهب الأرض ونحن نتسابق أمام بغلة العم أبو العبد المتأهبة عند "الليوان" مدخل بيت جدي الكبير وقد سرجت ووضع الخرج العامر بخيرات العام من زوادة اليوم الأول لقطف الزيتون. لا يمكن لهذا الصباح التشريني الذي لف الشمس بعباءة من ضباب، أن تتخطاه ذاكرتي الطفلة ، وأنا أقلد والدتي بلف زوادتي في صرة، وأحمل مطرة الماء في دلوي الصغير ، يملأني البشر متخطية أحلامي التي لا تتجاوز بضع قروش ثمنا لما استطعت جمعه في نهاية النهار من "بُذّار " الحَبَّ المتناثر بعيدا عن سطحة الشجرة، حيث تتساقط حبات الزيتون على مفارش بلاستيكية، تختصر الوقت لجمعها، وددت أن تمتد يدي خلسة لتغرف من تلك الكومة المغرية وأمي تذرو بها في الهواء لينفصل الحب عن الأوراق التي سقطت قسرا ، وأخوتي يضربون بجداداتهم أغصان الشجرة الغضة بكل قسوة ، سمعت همهماتها المتأوهة، عندما صاحت أمي: - كفاكم ، ليس هكذا يقطف الزيتون، إنه روح تحس، وجسد لا يعرف الهرم ولا العجز، أحبوها لتعطيكم . تأملت تلك الزيتونة الرومانية عريضة الجذع ، تبدو عجوزاً هرمة، تجعد جسدها وتشقق لكن أغصانها نضرة تضج بالحياة. كانوا كلما انتهوا من زيتونة ينتقلون لأخرى، وأنا أنقض على ما تبقى عليها من حبات توارت عن أعينهم المتربصة بها، فأتسلقها بخفة أتقافز على أغصانها الطرية، كعصفورة، ملاحقة بيدي تلك الحبات لأضيفها إلى جعبتي. يتراءى لي من بعيد أبو الدحبور ، وهو يقود حمارته التي تجر" الطمبر" المحمل بما لذ وطاب من الفاكهة، فأقفز عن الشجرة إلى أمي أحثها على مناداته، قبل أن يتجاوزنا وهو يصدح بصوته العذب: - خليلي يا عنب ، عسل يا جوافا، قطر يا تفاح. فتناديه أمي لتقايض الزيتون بالفاكهة، وأنا أترقب بحفاوة تلك الغنائم الشهية، ينزل ميزانه ذا الكفتين المعلقتين بالخيوط من على العربة، تضع أمي الزيتون في كفة، ويضع الفاكهة في الكفة الأخرى، ينتصب بقامته حاملا مقبض الميزان عاضا شفتيه مبرزا أنه يبذل جهدا في اتزان الكفتين، من حسن الحظ أن الفاكهة كفتها راجحة وأن ذلك الرجل الطيب كريم ويحبنا، ولم أعِ لماذا كانت كذلك إلا عندما سمعت جارنا في حقل الزيتون المجاور، وقد علا صوته: - اتق الله يا رجل ولا تبخس، ارفع يدك عن ذراع الميزان قاربت شمس ذلك النهار على الزوال، لكني لاحظت كيف بدت أمي منهمكة تحث أخوتي على الإسراع في تعبئة كيس الخيش "أبو خط احمر"وهذا يعني أننا جنينا محصولا جيدا هذا النهار، أحضر أخي السكين وقطع غصنا رفيعا ملتصقا بجذع الشجرة، وأخذ يشذبه ويزيل قشرته حتى أصبح "خلالا" رفيعا ودبب رأسه كرمح وأخذ يخيط فتحة الشوال به كأنه مسلة. خبأنا الجدادات والمفارش في جذع شجرة الزيتون الكبيرة وأطفأنا بالماء جمر الموقد، وجلسنا عند شوال الزيتون على حافة الطريق، ننتظر من يسوقه الله لنا لنركب وحمولتنا ونعود إلى البيت قبل أن يجن الليل. بعد أن كانت الطرقات خالية عادت إليها الحياة، حمير مثقلة بأحمال الزيتون وعربات تقطرها الخيول والبغال تمر بنا عربة العم محمود فنركب معه، يلكز الحصان بسياطه ليسرع تجلس أمي بالقرب من جارتنا في العربة وأعتلي أنا وأقراني الأشولة بينما أخوتي وأولاد الجيران يلحقون مشيا على الأقدام . بدا لي الطريق طويلا وعلى صرير عجلات العربة ووقع حوافر الحصان الرتيبة خدرت حواسي فثقل جفناي وغلبني النوم . تقلبت، فوقعت على أرض العربة يتلقفني حضن أمي، فتحت عيني يتملكني الهلع، على وشك دخول العتمة وما زلنا في الطريق!!! - يما ليش بعدنا ما وصلنا ليش واقفين الناس؟ - المستوطنين عند الجبل قاطعين الطريق بيصادروا الزيتون من الناس يما . - شو يعني يصادروه؟ - يعني بينهبوه زي ما نهبوا الأرض. - نهبوا الأرض!!! نظرت إلى عيني أمي، رأيت الأرض، بساتين البرتقال والليمون، سهول المرج المتماوج الزرع وجدتي تحتضن الزيتونة المحترقة، ورأيت تلك الأفعى الإسمنتية الطويلة تلتف بتعرج ابتلعت ما كان فسيحا ممتدا للافق ... وابتلعت معها دموع أمي وعمرها الذي هدرته تغرس الزيتون على الجهة الأخرى هناك عند ذاك الجدار كانت أرواح طفولة تتقافز، تحمل فرشاة الألوان، ترسم نافذة وبحرا، وأخرى ترسم سلما تتسلقه أحلامها الصغيرة. وهنا... وبعد سني غربة طويلة، عدت لأجلس على ذات العتبة، بباب الليوان الكبير، أتأمل المارين على جراراتهم صباحا، ترافقني ابنتي الصغيرة، تلكزني وتسرّ في أذني: - ماما، شامِّة ريحة خبز زاكية من عند خالتو أم محمد إحكيلها تعملي عروسة مناقيش، قبل ما نروح نقطف الزيتون.