10 صور ترصد انطلاق العام الدراسي الجديد بكليات جامعة الإسكندرية    وزيرا خارجية مصر والكونغو يتفقان على مواصلة التعاون في كافة المجالات    آداب عين شمس كاملة العدد في أول يوم دراسي (فيديو وصور)    حفيد عبد الناصر: الزعيم يعيش فى قلب كل مصرى    تعرف على موعد حفلات تخرج دفعات جديدة من كلية الشرطة والأكاديمية العسكرية    سعر الذهب اليوم السبت في مصر يهبط مع بداية التعاملات    أسعار الدواجن ترتفع اليوم السبت بالأسواق (موقع رسمي)    4 نوفمبر المقبل آخر مهلة، خطوات التصالح في مخالفات البناء بالمدن الجديدة    سعر الدينار الكويتي مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 28-9-2024 في البنوك    تداول 47 ألف طن بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    وزير الخارجية يشارك في الجلسة الطارئة لمجلس الأمن    إيران تتعهد بملاحقة إسرائيل في المحافل الدولية    إسقاط صاروخ "أرض-أرض" فوق شمال إسرائيل    الهند تحذر:استمرار باكستان في الإرهاب سيؤدي إلى عواقب وخيمة    تشكيل الهلال المتوقع لمواجهة الخلود بالدوري السعودي    جمهور الزمالك يهاجم إمام عاشور واللاعب يرد (صور)    تشكيل أرسنال المتوقع أمام ليستر سيتي.. تروسارد يقود الهجوم    تجديد حبس عاطلين متهمين ب سرقة سيارة في الشروق    30 يومًا.. خريطة التحويلات المرورية والمسارات البديلة بعد غلق الطريق الدائري    بأوتبيس نهري.. تحرك عاجل من محافظ أسيوط بعد فيديوهات تلاميذ المراكب    تكثيف أمني لكشف غموض العثور على جثة سيدة مقطوعة الرأس بقنا    3 أفلام سورية بمهرجان ليبيا السينمائي الدولي للأفلام القصيرة    بسبب طليقته.. سعد الصغير أمام القضاء اليوم    بمشاركة فريق مسار إجباري.. حكيم يشعل المنيا الجديدة بإحتفالية ضخمة وكلمة مؤثرة عن سعادته الحقيقية    في اليوم العالمي للمُسنِّين.. الإفتاء: رعاية كبار السن واجب ديني واجتماعي يجب الالتزام به    الرقابة الصحية تبحث التعاون في مجال السياحة العلاجية بين مصر وتركيا    أفضل الطرق الطبيعية للتخلص من دهون البطن    وزير الصحة: مصر مصنفة من أكثر البلاد استهلاكا للأدوية في العالم    أستاذ علوم سياسية: إسرائيل دولة مارقة لا تكترث للقرارات الدولية    وزارة العمل تستعرض أهم الملفات أمام رئيس مجلس الوزراء.. وتعاون مع "التعليم" في مجالات التدريب المهني    الباذنجان 3.5 جنيه، ننشر أسعار الخضراوات اليوم السبت بسوق العبور    مجسمات لأحصنة جامحة.. محافظ الشرقية يكرم الفائزين في مسابقة أدب الخيل    التفاصيل الكاملة لحفل أحمد سعد بمهرجان الموسيقى العربية    شهداء وجرحى في غارات إسرائيلية متواصلة تستهدف بعلبك والمناطق الجنوبية اللبنانية    إنفوجراف| حالة الطقس المتوقعة غدًا 29 سبتمبر    مقتل شخص في مشاجرة بسبب خلافات سابقة بالغربية    بسبب خلاف حول الأجرة، حبس سائق توك بتهمة قتل شاب في السلام    4 شهداء في قصف للاحتلال وسط قطاع غزة    عقوبات الخطيب على لاعبي الأهلي بعد خسارة السوبر؟.. عادل عبدالرحمن يجيب    عودة أسياد أفريقيا.. بهذه الطريقة أشرف ذكي يهنئ الزمالك بالسوبر الأفريقي    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط» 28 سبتمبر 2024    أمين الفتوى: حصن نفسك بهذا الأمر ولا تذهب إلى السحرة    مواقف مؤثرة بين إسماعيل فرغلي وزوجته الراحلة.. أبكته على الهواء    طعنة نافذة تُنهي حياة شاب وإصابة شقيقه بسبب خلافات الجيرة بالغربية    جوميز: الزمالك ناد كبير ونسعى دائمًا للفوز    مع تغيرات الفصول.. إجراءات تجنب الصغار «نزلات البرد»    حسام موافي: لا يوجد علاج لتنميل القدمين حتى الآن    جامعة طنطا تواصل انطلاقتها في أنشطة«مبادرة بداية جديدة لبناء الإنسان»    عبد المجيد: التتويج بالسوبر سيمنحنا دفعة معنوية لتحقيق الدوري والكونفدرالية    ستوري نجوم كرة القدم.. احتفال لاعبي الزمالك بالسوبر.. بيلينجهام وزيدان.. تحية الونش للجماهير    فتوح أحمد: الزمالك استحق اللقب.. والروح القتالية سبب الفوز    ألسنة لهيب الحرب «الروسية - الأوكرانية» تحاصر أمريكا    الوكيل: بدء تركيب وعاء الاحتواء الداخلي للمفاعل الثاني بمحطة الضبعة (صور)    وزير الخارجية يتفقد القنصلية المصرية في نيويورك ويلتقي بعض ممثلي الجالية    برج القوس.. حظك اليوم السبت 28 سبتمبر 2024: لديك استعداد للتخلي عن حبك    تزامنا مع مباراة الأهلي والزمالك.. «الأزهر للفتوى» يحذر من التعصب الرياضي    أذكار الصباح والمساء في يوم الجمعة..دليلك لحماية النفس وتحقيق راحة البال    علي جمعة: من المستحب الدعاء بكثرة للميت يوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القومية العربية في شعر الجارم
نشر في شموس يوم 25 - 07 - 2013

1 قضى الشعراء في العصر الحديث ردحا من الدهر يتجاوبون باهازيج الوحدة الإسلامية ممثلة في الخلافة العثمانية ، وارث حماستهم للخلافة أنهم وجدوا الدول الغربية تكيد للإسلام وشعوبه في حملاتها على تركيا وعلى الولايات الإسلامية الخاضعة لها .
وهالهم أن الدول الأوربية تبيت الشر للخلافة ، وتتطلع إلى اقتسام ولاياتها ، وتحرض المسيحية منها على الاستقلال والانفصال . وقد تكشف هذا في مؤتمر برلين سنة ( 1878م ) إذ أجتمع لحل مشكلات تركيا في البلقان ، لكنه لم يسفر إلا عن تمزيق الولايات وابتلاعها . وقد بدأ تحقيق المطامع بأن احتلت انكلترا جزيرة قبرص ، واحتلت روسيا بعض ممتلكات تركيا على البحر الأسود واضطرت تركيا إلى التخلي عن رومانيا والصرب . ثم في سنة ( 1881 م ) احتلت فرنسا تونس . وبعد ذلك بعام واحد نصبت انكلترا أحابيلها لاحتلال مصر ، غير عابئة بمعاهدة لندن (1840م ) ثم هاجمت ايطاليا طرابلس سنة ( 1911 م ) وأجبرت تركيا على التخلي عنها سنة ( 1912 م) لتفرغ لثورات في البلقان عاتية فكان الرد الطبيعي على هذا العدوان المتكرر أن يؤيد المستنيرون الخلافة ، وأن يناصروا آل عثمان ، وأن يتهموا أوربا صادقين بأنها تجددها حربا صليبية ثانية ، وأنها لاتصوب ضرباتها لتركيا وحدها ، بل تصوبها إلى الإسلام ممثلا في الخلافة الإسلامية ، وفي بني عثمان . ولم يجد الساسة والأدباء في ذلك الوقت تنافيا بين العاطفة الوطنية ، بل قد وجدوا في ارتباطهم الإسلامي سلاحا يفلون به الاستعمار الأوربي الطاغي . نتبين هذا في مصر وسورية وفي العراق إلا على ألسنة قلة من الأدباء كانت لهم منازع فردية جامحة .
2 لكن العرب المستنيرين لم ينسوا في هذا الخضم أنهم أصحاب قومية يحب أن تنفرد وقد بدأ نزوعهم هذا يستعلن منذ أواخر القرن التاسع عشر مطالبا بحقوق العرب ، ومثيرا عزائمهم مسلمين و مسيحيين إلى أن يتحدوا ليكون لهم كيان خاص في الخلافة العثمانية ، ويدركوا الغبن النازل بهم ونشأت جمعيات شتى لتحقيق هذا الغرض ، منها جمعية حفظ حقوق الملة العربية سنة (1881م ) والجمعية التي انعقدت بباريس سنة (1896م ) من شباب العرب والترك ، ودعت إلى أن يحكم الولايات العربية حكام من العرب مستقلون في ظل الخلافة العثمانية . ثم صدر الدستور العثماني سنة (1908 م) فحقق للعرب بعض ما يريدون إذ انتخب من الأقاليم العربية نواب يمثلون العرب بالأستانة ، وكان عددهم يزيد على ربع أعضاء المجلس . ورأى أحرار العرب في الدستور كفالة لحريتهم ، فانطلقت ألسنتهم من عقالها ، وانفلتت أقلامهم من أغلالها ، وتنفس الذين كانوا مختنقين بالإرهاب والاستبداد ، فتيقظ العرب ، وازداد إدراكهم لحقوقهم المسلوبة ، وأدركوا أنهم ورثة مجد يجب أن يبعثوه ، وصدرت صحف عدة في العواصم العربية كان لها تأثير عظيم في إيقاظ الرأي العام ، وبث الروح القومي العربي .
ثم تبين العرب أن أقطاب العهد الجديد يسيرون في الحكم كسابقيهم ، فيعززون قوميتهم التركية ويقاومون العناصر الأخرى ، وجعلت الصحافة التركية تكشف عن نوايا الأتراك ، وتنال من العرب ، فانبرت الصحف العربية ترد على التهجم بمثله ، ونظم الشعراء من الترك ومن العرب قصائد وكان في هذا الصراع أذكاء للقومية العربية . ونجم من هذا الشعور أن أنقض العرب عن الاتحاديين ، وأن شرعوا ينشئون جمعيات عربية جديدة في عواصمهم بالقاهرة ودمشق وبيروت وبغداد ، وفي الأستانة نفسها ، لتعزيز شأن العرب ، والدفاع عن حقوقهم ، وتسويتهم بالترك في الوظائف والأعمال . وكان لهذه الجمعيات أثرها القوي في بعث القومية العربية ، وإيقاظ الشعور القومي والدعوة إلى حكم عربي داخلي ، والى تعاون العرب على مافيه خيرهم ، وناصرتها جرائد شتى بالأقطار العربية . ومنذ ذلك الوقت ترددت فكرة القومية في الشعر الحديث ، خافتة الصوت ، مبهمة الغاية في أول الأمر ثم قوى صوتها ، واتضحت أهدافها بعد ذلك . والحق أن الفضل في أنشاء الجامعة العربية القائمة وفي استهلال الوحدة العربية المنشودة ، يرجع إلى الأدباء قبل أن يرجع إلى الساسة ، الآن الأدباء يصدرون عن نفوس مبرأة من المطامع الشخصية ، ويعبرون عن آمال الشعب ، أما الساسة فكثيرا ماكانت تسيطر عليهم أهواؤهم وشهواتهم الخاصة ، ومخاوفهم من الوحدة فصاروا يقفون بالفكرة أو يرجعون بها إلى الوراء أكثر مما يدفعونها إلى الأمام . كان الجارم من الشعراء الذين لهجوا بالوحدة العربية ، ودعوا إلى ضرورتها ، وشدة الحاجة إليها فطالما آزر الوحدة , وطالما أشاد بها وكثيرا ما حيا بوادرها , وتغنى بآثارها . (1) فهو يذكر وحدة الدم ووحدة التأريخ ووحدة الوطن في قوله :
بني العروبة أن الله يجمعنا فلا يفرقنا في الأرض إنسان
لنا بها وطن حر نلوذ به إذا تناءت مسافات وأوطان
غدا الصليب هلالا في توحدنا وجمع القوم إنجيل وقرآن
ولم تبال فروقا شتتت أمما عدنان غسان أو غسان عدنان
أواصر الدم والتأريخ تجمعنا وكلنا في رحاب الشرق أوطان
هذه الأبيات تعبر عن عقيدة الشاعر في وحدة العرب ، لان الله قد جمعهم فلن يستطيع الاستعمار ولن تستطيع الأهواء أن تفرقهم ، وهم أخوة جرى في عروقهم دم واحد ، وأقاموا في الوطن واحد ، واشتركوا في تأريخ واحد ، وأقاموا في وطن واحد ، واشتركوا في تأريخ واحد ، ولن يتنافروا لاختلاف الدين السماحة التي يدعو إليها الإسلام ، والمسيحية ، والأخوة التي تربط المسيحيين بالمسلمين ، والوحدة العربية القديمة العهد جعلت الهلال والصليب رمزين مختلفين مظهرا ومتآلفين حقيقة . ويردد الجارم وحدة الجنس والتأريخ في قوله لسكان العراق ممثلين في بغداد :
بغداد يا بلد الرشيد ومنارة المجد التليد
يا سطر مجد للعروبة خط في لوح الوجود
يا مغرب الأمل القديم ومشرق الأمل الجديد
بغداد أنا وفد مصر نفيض بالشوق الأكيد
أهلوك أهلونا وأنباء العشيرة والجدود
بين القلوب تشوف كتشوف الصب العميد
حتى يكاد يحب نخلك نخل أهلي في رشيد
شطت منازلنا وما أحتاج الفؤاد إلى بريد
الرافدين تمازجا في الحب بالنيل السعيد
وتعانق الظلان ظل الطاق والهرم المشيد
وهو في هذه الأبيات لم يقتصر على تصوير ما بين السكان من حب متبادل ، بل أضفى هذا الحب على غير الأناس ، فالنخل في رشيد يحب النخل في بغداد ، ودجلة والفرات مغرمان بالنيل والهرم وإيوان كسرى يتعانقان متحابين ، وهو يريد بهذه الصور أن يؤكد مابين البلدين من حب صادق لأنه قديم منبعث عن روابط وثيقة ،حتى أن الماء والنبات والجماد تستجيب لبواعثه . ولست أدري لم جعل الرافدين يتمازجان في الحب بالنيل ، وجعل ظلى الهرم والإيوان يتعانقان ، ولم يجعل النخل متحابا ، بل جعله يكاد يتحاب ؟ ولاشك أن (يكاد) جيدة في موضعها لولا أن الصورة التي يرسمها هذا البيت لاتنسجم مع الصورتين اللتين في البيتين التاليين ، لأن الحب هنا يكاد يتحقق , والحب هناك واقع ومحقق . وذا كانت فلسطين فلذة من قلب العروبة عدا عليها الأفاقون من الصهاينة , حزن العرب جميعا , وعبر الشعراء عن الأمة العربية . وأن الجارم ليأسى لنكبة فلسطين أسى يسيل دموعه , ويعتصر قلبه ، ويذكره بمثيلة لها من قبل ، هي نكبة العرب في الأندلس . ويتحسر على عهد صلاح الدين ويجهر في وجه الصهيوني وأعوانها بأن يردوا إلى العرب تراث آبائهم , لأنهم دخلاء أفاقون , وينذرهم بأن اغتصابهم لفلسطين كارثة لا قبل لنا بأن نصبر عليها :
قلبي وفيض دموعي كلما خطرت ذكرى فلسطين خفاق وهتان
لقد أعاد بها التأريخ أندلسا أخرى وطاف بها للشر طوفان
ميراثنا في فتى حطين أين مضى وهل نهايتنا يتم وحرمان
ردوا تراث أبينا مالكم صلة به ولا لكم في أمرنا شان
مصيبة برم الصبر الجميل بها وعز فيها على السلوان سلوان
لاحظ أن هذه الفكرة مبرأة من التعصب الديني , لأنه في مناجاته سكان الحجاز بني الصلة على الدين والنسب معا , وفي مناجاته لسكان العراق بناها على النسب والتأريخ والدين واللغة وفي مناجاته لسكان السودان أقام المحبة على وحدة الدم والدين والوطن , فلم يجعل الدين وحده دعامة من دعائم القومية .
2 ويشيد الجارم بالغة العربية , لأنها رابطة من روابط القومية العربية , يكفل وحدة الثقافة ويحقق التفاهم , ويوحد الوجدان . ولهذا هش لانعقاد المؤتمر الطبي العربي بالقاهرة سنة ( 1939) يوم الوقوف بعرفة ورحب بأعضائه في قوله
أيها الوافدون من أمم الشرق * وأشباله الأباة الصيد
أهبطوا مصركم بها من قلوب * شفها حبكم وكم من كبود
قد رأينا في قربكم يوم عيد * قرنته المنى إلى يوم عيد
أن مصر لكم بلاد وأهل * ليس في الحب بيننا من حدود
جمعتنا الفصحى فما من وهاد * فرقت بيننا ولا من نجود
يصل الحب حيث لا تصل الشمس * ويجتاز شامخات السدود
وكذلك نوه بالمسائل الثقافية التي تقرب بين الأخوة وتصلهم بصلات الود والوفاء ، وتسفر بينهم فتعلم بعضهم أحوال بعض . فقد تنبه إلى أثر الإذاعة القوى في أيقاظ العروبة وتقويتها , ومدها بغذاء موصول في قوله :
تعالى نطير بريش الأثير * ونعلو به حيثما يعتلى
نمر كما مر طيف الخيال * ألم لماما ولم يحلل
فبينا نحدث أهل الحجاز * إذا صوتك العذب في الموصل نحيي بني العرب الأوفياء * ونسمعهم غرد البلبل
أولئك قومي بناة الفخار * وزين المحافل والجحفل
ولولا الإذاعة عاش الكرام * حماة العروبة في معزل
3 ولم ينس الجارم أن الإسلام وشيجة من وشائج العروبة , ناظرا إلى أنه دين الكثرة , والى أنه دين وحضارة وثقافة وآداب ومجد وتأريخ , ولا شك في أن النصارى يشكون المسلمين في كثير من هذا . قال الجارم في مناجاة سكان الحجاز :
يا جيرة الحرم المزهو ساكنة * سقى العهود الخوالي كل منسكب
لي بينكم صلة عزت أواصرها * لأنها صلة القرآن والنسب
وقال لسكان العراق :
سموت إلى بغداد والشوق نحوها * يساورني حينا وحينا أساوره
كلانا نأى عن أهله وعشيرة * ليلقاه فيها أهله وعشائره
حبيب إلى نفسي العراق وأهله * وسالفه الزاهي المجيد وحاضره
ديار بها الإسلام أرسل ضوءه* فسار مسيرالشمس في الأفق سائره
ومدت بها الآداب ظلاعلى الورى * تساوت به آصاله وهوا جره
تجلى بها عهد الرشيد وعزه * وزاهر ملك الفاتحين وباهره
إذا شئت مجد العرب في عنفوانه * فهذي مغانيه وهذي منائره وردد الفكرة في قوله لسكان السودان :
أن جزت يوما إلى السودان فارع له *مودة كصفاء الدر مكنونا
عهد له قد رعيناه بأعيننا * وعروة قد عقدناها بأيدينا
ظل العروبة والقرآن يجمعنا * وسلسل النيل يرويهم ويروينا
4 على أن من دعائم القومية العربية وحدة الوجدان والمشاعر , والمشاركة في الأفراح , ومقاسمة الآلام والأتراح , لأن العرب أخوة لا مناص أن يتقاسموا السراء ويتآزروا في الضراء . وقد صور الجارم هذه المشاركة في عدة صور , وكان حفيا بتكرار تصويرها بين المدن والأنهار والجبال والأشجار والآثار يريد أن يؤكد الود بين الشعبين بأنه ماثل في النبات والجماد , فلابد أن يكون بين الأناس أقوى وأعمق , لأنه استجابة للفطرة لا يحول ولا يزول . قال الجارم :
تذوب حشاشات العواصم حسرة * إذا دميت من كف بغداد أصبح
ولو صدعت في سفح لبنان صخرة *لدك ذرا الأهرام هذا التصدع
ولو بردى أنت لخطب مياهه * لسالت بوادي النيل للنيل أدمع
ولو مس رضوى عاصف الريح مرة * لباتت له أكبادنا تتقطع ورجع هذا في قوله : لبنان مذ حلت ذراك ركابنا * حلت من الدنيا بأكرم ساح الأرز فيك ونخل مصر كلاهما *أخوان في الأتراح الأفراح والنيل منك فلو بكيت لفادح * غمر الشطوط بدمعه النضاح وردده في قوله :
حمامة وادي الرافدين أبعثي الهوى
حنينا فما أحلى الحنين وما أشدى
ففي النيل أرواح ترف خوافق
تقاسمك التأريخ والدين والودا
ظمأ إلى ماء بدجلة سلسل
تود بنور العين لو رأت الوردا
إذا مست البأساء أذيال دجلة
قرأت الأسى في صفحة النيل والكمدا
وأن طرفت عين ببغداد من قذى
رأيت بمصر أعينا ملئت سهدا
أفاء على الفصحى توثق عقده
وشدت على الأيمان أطرافه شدا
لنا في صميم المجد خير أبوه
زهينا به أصلا وتاهت بنا ولدا
وقد أستطاع الجارم أن يصور الفكرة الواحدة ثلاث صور , لكنها متشابهة الألوان والظلال ، وأن أضاف إلى الصورة الأخير ما ليس في سابقتيها ، إذ رجع هذه المشاركة إلى وحدة اللغة والنسب . على أنه في هذا التصوير متأثرا تأثرا واضحا بشوقي قي قوله يحيي مبايعته بإمارة الشعر من أقطار العروبة سنة (1927) ، إذ وصف المهرجان بأنه عكاظ اجتمعت فيه العروبة التي عبر عنها بالشرق ثم ختم القصيدة بتصوير وحدة الشعور العربي في السراء والضراء , والسخط على الاستعمار والجهاد للخلاص من أصفاده :
يا عكاظا تآلف الشرق فيه * من فلسطينه إلى بغدانه
رب جار تلفتت مصر توليه * سؤال الكريم عن جيرانه
بعثتني معزيا بمآسي * وطني أو مهنئا بلسانه
كان شعري الغناء في فرح الشرق * وكان الغراء في أحزانه
قد قضى أن يؤلفنا الجرح * وأن نلتقي على أشجانه
كلما أن بالعراق جريح * لمس الشرق جنبه في عمانه
وعلينا كما عليكم حديد * تتنزى الليوث في قضبانه
نحن بالفكر بالديار سواء * كلنا مشفق على أوطانه
5 على أن العرب يرتبطون بتأريخ موحد مجيد , يعتزون به ويباهون , إذ كانوا في سالف عهدهم سادة الدنيا , وزينة الأرض , بطولة وسماحة ونخوة وكرما وحضارة ,هم حراص على بعث هذا المجد العريق , على رفض الذل والأنفة من الاستعمار , والانطلاق من القيود إلى منفسح العزة المجد . لهذا يفاخر الجارم بمجد العرب العريق , ويقرن أوله بأول الدهر ، ويباهي ببطولتهم في عدة صور , فسيوفهم روعت الدنيا , وحطمت عرش كسرى وقيصر , وعزماتهم كانت تطير بهم إلى ميادين الحرب كأنها خيل تركض بهم ركضا ، وهم في نار الحرب المشتعلة جن لا يعبأون بنار . ويخايل بأخلاقهم ونظمهم ، فهم الذين علموا الناس المساواة الحقة ، وهم الذين شهروا سيوفهم لنصرة الحق ، وهم الذين هدموا صروح الشرك وأقاموا صروح التوحيد , وهم الذين حكموا العالم بالعدل والرحمة فكانوا بالسلم كالملائكة , وهم الذين أضاءوا للعالم طرق العلم والثقافة , وكانت أقلامهم تواكب سيوفهم .
ثم يعقب على هذا بتفضيلهم على الأمم التي سبقتهم كالفرس واليونان والرومان , ويأسف أن وحدتهم وقوتهم ذهبت بها الأحقاد والإضغان . يقول الجارم
إني كتاب إلى الأجيال تقرؤه * له التغني بمجد العرب عنوان
مجد على الدهر مذ كانت أوائله*ودولة لبني الفصحى وسلطان
صوارم ريعت الدنيا لوثبتها * وحطمت صولجانات وتيجان
الناس عندهم أبناء واحدة * فليس في الأرض سادات وعبدان
تراكضوا فوق خيل من عزائمهم* لهم من الحق أسياف وخرصان
وكلما هدموا للشرك باذخة * أقيم للدين والقسطاس بنيان
في السلم أن حكموا كانوا ملائكة * وفي لظى الحرب تحت النقع جنان
أقلامهم سايرت أسياف صولتهم *للسيف فتح وللأقلام عرفان فأين من شرعهم روما وما تركت *وأين من علمهم فرس ويونان كانوا أساتذة الآفاق كم نهلت * من فيضهم أمم ظمأى وبلدان
كانوا يدا ضمت الدنيا أصابعها *ففرقتها حزازات وإضغان
ويباهي بأجداده العرب في قوله :
أين عمرو فتى العروبة والأقدام * أوفى مجاهد بالعقود
شمرى يحطم السيف بالسيف * ويرمي الصنديد بالصنديد
لم يكن جيشه لدى الزحف الأقوة *العزم صورت في جنود
إلى أن يقول :
ملكوا الأرض لم يسيئوا إلى شعب *ولم يحكموه حكم العبيد
هم جدودي وأين مثل جدودي * أن تصدى مفاخر بالجدود
ولم ينس في وصفه الصحراء بين مصر والسودان أن يستطرد من وصفها إلى الإشارة بعز العرب ، وعدلهم في حكمهم ، وبطولتهم في حروبهم , وبسطة ملكهم , وفضلهم على العالم :
صحراء فيك خبيئا سر عزتنا * فأفصحي عن مكان السر وأهدينا
أنا بنو العرب ياصحراء كم نحتت *من صخرك الصلد أخلاقا أوالينا
عزوا وعزت بهم أخلاق أمتهم *في الأرض لما أعزوا الخلق والدنيا
منصة الحكم زانوها ملائكة * وجذوة الحرب شبوها شياطينا كانوا رعاة جمال قبل نهضتهم * وبعدها ملأوا الأفاق تمدينا أن كبرت بأقاصي الصين مئذنة * سمعت في الغرب تهليل المصلينا كان الجارم داعية من دعاة القومية العربية , كان حريصا على أن يحققها العرب , وحريصا على توجيههم إلى الوسائل التي تكفل سيرهم إلى الهدف الموحد ، من ذلك أنه هتف بالعرب أن يجدوا في التسلح بالعلم , وأن يوحدوا المناهج الدراسية أو يقربوا بينها , لينشأ فتيانهم متلائمين في ثقافتهم متوافقين في ميولهم , وأهاب بالعرب أن يعنوا أعظم العناية بلغتهم لأنها عنوان وحدتهم يقول :
بني العروبة مدوا للعلوم يدا * فلن تقام بغير العلم أركان
جمعتم لشباب الشرق مؤتمرا * بمثله تزدهي الفصحى تزدان
فقربوا لهجهم فالروح واحدة *وكلهم في مجال السبق أقران
وحببوا لغة العرب الفصاح لهم* فأن خذلانها للشرق خذلان
قولوا لهم أنها عنوان وحدتهم *وأنهم حولها جند وأعوان
وأهاب بالعرب أن يثبوا إلى تحقيق آمالهم وثبا , وأن يطيروا إلى العلا طيرانا , ليستعيدوا مكانتهم الأولى , حضارتهم الزاهرة , ضرب لهم مثالا من مصر الجادة في نهضتها , حتى لقد استعادة عصر العروبة الذهبي :
أمة العرب آن أن ينهض النسر *فقد طال عهد الرقود
صفقي بالجناح في أذن النجم *ومدى فضل العنان وسودى وأعيدي حضارة زانت الدنيا *فكم ودت المنى أن تعيدي أنما المجد أن تريدي وتمضي *ثم تمضي سباقة وتريدي
لا ينال العلا سوى عبقري *راسخ العزم كالصفاة جليد
قد أعدنا عهد العروبة في مصر وذكرى فردوسها المفقود
ويقول في حفز العزائم أيضا :
ياأمة العرب أركضي * ملء العنان ولا تهيدي
سودي فآمال المنى *والعبقرية أن تسودي
هذا أوان العدو لا *الأبطال والمشي الوئيد
المجد أن تتوثبي *وإذا وثبت فلا تحيدي
وتحلقي فوق النجوم *بلا شبيه أو نديد
وإذا شدا الكون المفاخر* كنت عنوان النشيد
لا تخطئي حد العلا *ما للمعالي من حدود
من يصطد النمر الوثوب *يعف عن صيد الفهود
ويهتف بالعرب أن يعتصموا بوحدتهم ليراهم العدو جماعة في فرد ، وفردا في جماعة ، ويحثهم على أن يجددوا آمالهم وأعمالهم ، وإلا يقنعوا بمطلب ينالونه .
ثم يذكرهم ببطولتهم وبأنهم أبناء الحروب ألفوها وألفتهم ، واستحلوا غبارها فكان في أفواههم ألذ من الشهد وأطيب من المسك ، ويعقب على هذا بأن لقاء القوة بالقوة لا مفر منه إذا لم يكن في الحلم نفع للحليم . وانه ليلمح بهذا إلى أن واجب العرب أن يحاربوا للذود عن وحدتهم إذا ما اضطروا إلى الحرب :
أولئك أبناء العروبة مالهم *عن الفضل منأى أو عن الجد منزع
هم في ظلال الحق جمع موحد *وعند التقاء الرأي فرد مجمع
وقد يدرك الغايات رأي مدرع *إذا ناء بالأمر الكمي المدرع
لهم أمل لا ينتهي عند مطلب *لقد ذل من يعطي القليل فيقنع
غبار رحى الهجاء في لهواتهم*من الشهد أحلى أو من المسك اضوع
إذا لم يكن حلم الحليم بنافع * فأن صدام الجهل بالجهل أنفع
ولما أعلن انتهاء الحرب الكبرى في مايو (1945) أستقبل الجارم هذه البشرى بالابتهاج والتأييد ورسم صورا لأمانيه ، ومن هذه الأماني أن يسترد العرب عزهم واستقلالهم :
ليت شعري ماذا سنجنى من *النصر وهل تصدق الليالي الوعودا
وهل الأربع الروائع كانت *حلما أم مواثقا وعهودا
وهل العرب تسترد حمامها *وتناجي فردوسها المفقودا
وترى في السلام مجدا طريفا * جاء يحيي بالأمس مجدا تليدا
(الحريات الأربع في ميثاق الأطلنطي )
ثم تحقق الحلم ، واستهلت الجامعة العربية سنة (1944) فابتهج الجارم أيما ابتهاج وتغنى ببهجته في قصيدة طويلة تحدث فيها عن يقظة الشرق , ونهضته الجديدة ، ووحدته المباركة ، وأنفاقه في السياسة العامة ، وهو يريد بالشرق الأمة العربية التي وقعت ميثاق الجامعة ، وكثيرا ماكان الشعراء يطلقون كلمة الشرق وهم لايريدون به إلا الوطن العربي :
صحا الشرق وإنجاب الكرى عن عيرنه
وليس لمن رام الكواكب مضجع
إذا كان في أحلام ماضيه رائعا
فنهضته الكبرى أجل وأروع
توحد حتى صار قلبا تحوطه
قلوب من العرب الكرام وأضلع
وأرسلها في الخافقين وثيقة
لها الحب يملي والوفاء يوقع
لقد كان حلما أن نرى الشرق وحده
ولكن من الأحلام ما يتوقع
إذا عددت رايات فهي راية
وأن كثرت أوطانه فهي موضع
فليست حدود الأرض تفضل بيننا * لنا الشرق حد والعروبة موقع لكن هذه الجامعة الوليدة في حاجة إلى يقظة واعية ، وعيون ساهرة ، وقوة حامية ، لأن الدول الغربية كانت تحسبها جامعة صورية فإذا هي جامعة حقيقية عملية ، إذا هي تمهيد لوحدة أقوى وأصلب وأعظم . وهو في هذه المناسبة يذكر العرب بأن الدول الأوربية قد تنمرت وفغرت أفواهها لتثأر لنفسها من غزوات العرب الماضية . ولا يقتصر على التذكير ، بل يشفع إليه حماسة يقتبسها من الماضي ، وفخارا يستمده من الحاضر ، لتعظم ثقة العرب بأنفسهم وقوتهم ، فلا يضعفهم تهديد الغرب ولا وعيده : تنمر الغرب واحمرت مخالبه
وأرهفت نابها للفتك ذؤبان
ثارات طارق الأولى تؤرقهم
وما لما تترك الثارات نسيان
تيقظ الليث ليث الشرق محتدما
فارتج منه الثرى واهتز خفان
غضبان رد إلى اليافوخ عفرته
ومن يصاول ليثا وهو غضبان
لقد حمينا أباة الضيم حوزتنا
من أن تباح ودناهم كما دانوا
أما بعد : فقد كانت الوحدة العربية حلما من أحلام الأدباء ، وأمنية من أماني الساسة ، ثم أراد الله لها أن تصير حقيقة توشك أن تتحقق ، ولكن بعد أن مات الأدباء الذين ناجوها ، وقضى الساسة الذين ناغوها ، فليتهم عاشوا حتى رأوها وهي تبشر بالشرق السعيد . ويا للأسف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.