لوحة فنية رائعة رسمها بريشة فنان عبقري واستخدم فيها التكوين الفني الرائع في الصورة قدم لنا المخرج النمساوي مايكل هانكه تحفته التي سماها Amour والتي نال عنها سعفة مهرجان كان الذهبية ليصبح بذلك المخرج الوحيد الذي ينال سعفتين خلال ثلاثة أعوام في تاريخ هذه الجائزة النقدية الهامة . وفي فيلمه هذا يصور لنا الحب بطريقة غير مألوفة كثيراً فغالباً ما نرى الأفلام تقدم الحب من منظور الشباب والفتيات الذين لا يعرفون عنه إلا مجرد تبادل القبلات والضحكات. ولكن "هانكه" ينحو بنا في فيلمه هذا إلى استكشاف الحب بنظرة أكثر حميميةً وتآلفاً، فيصور لنا حياة زوجين عجوزين يعيشان في أحد المنازل الباريسية الكبيرة، ونفهم أنهما أمضيا عمرهما معاً حتى أصبحا على درجة تفوق الوصف من الارتباط ببعضهما. ثم تبدأ الفكرة الأساسية للفيلم عندما تتعرض الزوجة لنوبتين متتاليتين جراء جلطات في دماغها، وهو ما يفقدها القدرة على الحركة جزئياً والقيام بأمور حياتها اليومية بشكل يزداد سوءاً يوماً بعد يوم. وبينما تذوي حياة الزوجة "آن" يقف الزوج "جورج" عاجزاً أمام هذه الحالة المؤلمة، وهو يرى حبيبته تنسحب من بين يديه. لتبدأ أولى سمات حبهما العميق بالظهور. حيث يلتزم "جورج" بالعناية بزوجته المريضة وتقديم كل ما يوفر لها الراحة والاطمئنان النفسي، رغم أنه أصبح عجوزاً ولم يعد قادراً على القيام بكل شيء وحده. وإذ تبدو القصة عادية للبعض، ولكنها تحوي في ثناياها الكثير من التفاصيل الدقيقة التي تجعل من الفيلم عملاً إنسانياً بمنتهى العمق. حيث يغوص بنا "هانكه" في الآمال التي يفكر فيها كل إنسان، ويقتحم المخاوف التي تؤرق نومنا. فمَن منا لم يفكر بنهايته واليوم الذي لن يعود فيه قادراً على الاستمرار بهذه الحياة. وهنا يكون السؤال الكبير: "هل سيكون هناك أحد يمسك بيدنا ويمنحنا سلاماً في آخر الأيام؟!" بل إن الأمور تتعدى الحياة أحياناً، ولا تنتهي بانتهائها، فلا بد أن تكون صورتنا جميلة في عيون الناس الذين عرفناهم قبل أن تطوى صفحة العمر إلى الأبد. ومن منطلق هذه الأسئلة المصيرية يحقق "هانكه" مخاوف جميع البشر عن طريق قصته البسيطة والمؤثرة في نفس الوقت، ليحرض مشاهدي الفيلم على التفكير ملياً. وهذا ما يجعل للفيلم قيمة تأملية وإنسانية عالية، بعيداً عن مستواه الفني العالي. الشخصيات تم بناؤها بشكل متقن جداً، ولا سيما عندما ننظر إلى الأداءات الرائعة التي قدمها بطلا الفيلم الأساسيان. اللذان يؤدي دورهما "إيمانويل ريفا" بدور الزوجة "آن" و "جان لوي ترنتغنانت" بدور الزوج "جورج". وقد اعترف المخرج "هانكه" بأنه كتب الفيلم وهو يضع في باله هذا الممثل تحديداً لأنه كان يثق بقدرته على إيصال الأفكار التي أرادها بكل واقعية واقتدار. وبالفعل كان أداء الزوجين متكاملاً بشكل مبهر، حتى لتظن أنهما فعلاً زوجان منذ عشرات السنين. وبالتالي لا يمكن أن نعتبر أن أداء أحد الممثلين تخطى الآخر، بل كانا كأنهما يجسدان تماماً معنى الحب العظيم والخالد الذي أراده "مايكل هانكه". الغرابة والقوة في آن معاً تتجليان في الفيلم بعدة نقاط: أولاً: غياب الموسيقى التصويرية بشكل كامل، ولكن "هانكه" وظف بدلاً منها الأصوات الطبيعية للفيلم، حيث تم التركيز على صوت خطوات الممثلين وحركاتهم المختلفة، وهذا ما أعطى للفيلم مزيداً من الواقعية، وكأن الفيلم حقيقة ماثلة أمام أعيننا بكافة تفاصيلها الصغيرة. أما النقطة الثانية التي يجدر أن أشير لها: وهي أن "هانكه" اختار تصوير الفيلم بأكمله داخل منزل الزوجين، وهنا يقول المخرج القدير إن المنزل تحول بذلك إلى شخصية أكثر من كونه موقع تصوير، حيث أن هذا المنزل الباريسي الفسيح، والمليء بالكتب والأسطوانات الموسيقية والمقتنيات الراقية يحكي تاريخ وماضي شخصيتي الفيلم، ونرى من خلاله حياتهما المشتركة التي استمرت لعشرات السنين وهما برفقة بعضهما. وهكذا يبدو العمل السينمائي وكأننا نرى حياة حقيقية أمامنا لأشخاص عاديين من الممكن أن يكون أي واحد من المشاهدين بدلاً منه. هذا ما يضع المشاهد أمام حالة تنضح بواقعيتها وكأنها مجتزأة من الحياة المستقبلية لأي إنسان وهو يواجه أيامه الأخيرة في الحياة. والنقطة الأخيرة التي أحب أن أنوه لها، وهي طريقة التصوير حيث اعتمد الفيلم على اللقطات الطويلة التي تم التقاطها من كاميرا ثابتة غالباً، ودون الكثير من المونتاج والقطع. ليكون بذلك الدور الأكبر على الممثلين الذين أديا المطلوب منهما بأفضل شكل ممكن. وهذه الطريقة في التصوير أضفت عاملاً من التوقع والتحفز، حيث إن المشاهد يترقب طوال الوقت رؤية ما ستؤول إليه الأمور بما أن الأحوال ستزداد سوءاً باطراد كما هو واضح منذ البداية. وبالفعل لم يخيب "هانكه" آمال مشاهديه فمنحهم بعض اللحظات المفاجئة التي تكررت عدة مرات في الفيلم بشكل صادم ومحرض للأفكار والمشاعر. وعودة إلى شخصيتي الزوجين نرى من خلال الفيلم حالة الارتباط الراسخ بينهما، ومن خلال حواراتهما يطرح "هانكه" أمامنا الكثير من التساؤلات والأفكار. ونرى كيف أن الزوجين وصلا لمرحلة عالية من الحب لبعضهما فلا يقبلان بتدخل أحد في مشكلتهما التي يتعاملان معها وكأنهما شخص واحد حتى ولو كان الذين يحاولون التدخل هم أناس محببون لديهما كابنتها "إيفا" أو تلميذهما الموسيقار المبدع. كما أن حبهما وصل لدرجة أنهما يعرفان كل شيء عن بعضهما حتى إنهما يفشيان أدق الأسرار لبعضهما خوفاً من أن تنتهي الحياة فجأة دون أن يقول كل منهما للآخر كل ما يريد قوله. ومن هذه النقاط برزت براعة السيناريو الذي كان دقيقاً في كل حواراته وأحداثه، وكان كل مشهد يعطي قيمة وفكرة جديدة تضيف الكثير من الغنى في أفكار الفيلم. وبهذا يكون "هانكه" قد أسس بفيلمه هذا علاقة راقية ترتبط بالحب بأسمى وأرقى معانيه الإنسانية. وبغض النظر عن الحديث عن الجوائز فلا شك أن قيمة الفيلم الفكرية الكبرى تنبع من أنه يطرح الكثير من الأسئلة والقضايا التي يجدر بكل إنسان أن يفكر بها ملياً قبل أن يلتفت حوله فجأة فلا يرى مَن يضع يده في يده ويطمئن إلى أنه سيستمر معه في صعوبات هذه الحياة.. وإلى النهاية..