(خَيْرُ أوقاتِك وقتً تَشَهَدْ فيه وجودَ فاقَتِك، وَتُرَدُّ فيه إلى وجود ذِلَّتِك). إنما كان شهود الفاقة هو خير أوقاتك لوجهين: أحدهما ما في ذلك من تحقيق العبودية وتعظيم شأن الربوبية، وفي ذلك شرف العبد وكماله، إذ بقدر تحقيق العبودية في الظاهر يعظم شهود الربوبية في الباطن. أو تقول بقدر العبودية في الظاهر تكون الحرية في الباطن. أو تقول بقدر الذل في الظاهر يكون العز في الباطن. أو تقول بقدر وضع الظاهر يكون رفع الباطن. من تواضع دون قدره رفعه الله فوق قدره. وأنظر أشرف خلق الله وهم الأنبياء بماذا خاطبهم الله تعالى فما خاطبهم إلا بالعبودية، قال الله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً- وأذكر عبادنا إبراهيم واسحق ويعقوب- وأذكر عبدنا داوود ذا الأيد- وأذكر عبدنا أيوب). وقد أختارها نبينا صلى الله عليه وسلم حين خير بين أن يكون نبياً ملكاً أو نبياً عبداً فأختار أن يكون نبياً عبداً، فدل على أن أشرف حال الإنسان هو العبودية، فبقدر ما يتحقق بها في الظاهر يعظم قدره في الباطن، ومهما خرج منها في الظاهر بإظهار الحرية أدبته القدرة وردته القهرية حتى يرجع إلى أصله ويعرف ماله وعليه. الوجه الثاني ما في الفاقة من مزيد المدد وطلب الاستمداد: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين". إن أردت بسط المواهب عليك صحح الفقر والفاقة لديك، وقد جعل الله النصر والفتح مقرونين بالفاقة والذلة، وتحقيق الضعف والقلة، قال الله تعالى: "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة". وقال تعالى: "واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم". وجعل الخذلان وعدم النصر والمعونة في إظهار الحرية والقوة قال تعالى: "ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين". وذلك لما وقع من بعض الصحابة الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام، فأدبهم الله بإظهار الحرية، لكن عمت الفتنة: قال تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة". وهذا وجه ذكر الآية قبل ذكر القضية والله تعالى أعلم. فإذاً خير أوقاتك أيها المريد وقت تشهد فيه وجود فاقتك: أي ظهورها وإلا فهي كامنة فيك، وتسمى عند المتأخرين الحيزة وهي الشدة، فهي خير لك من ألف شهر أن عرفت فيها ربك.