قبل اكتشاف منابعهما، اعتقد قطاع وازن من الجغرافيين وعلماء العمران، عبر التاريخ، أن نهر الكونغو هو فرع للنيل. من هيرودوت وبطليموس والإدريسي والحموي، وصولا لابن خلدون. وحين تأكد إستقلالهما بحوض وجغرافية مستقلين، طرحت سيناريوهات “تزويجهما”. تبلور منها، نسبيا، مشروعان، الأول عبر النيل الأبيض إلى جنوب السودان، والثاني عبر بحيرة تشاد إلى مثلث العوينات جنوب غرب مصر. الكونغو ثانى أطول أنهار إفريقيا، بعد النيل، وأوسعها حوضًا. أعمق أنهار العالم، وثانيها غزارة، بعد الأمازون، 15 ضعف النيل. والكونغو الديمقراطية، كدولة، بها نصف مياه القارة. يتدفق نهرها بعنفوان 40 ألف متر مكعب بالثانية. تغذى مجراه الواسع شبكة روافد، وتندفع مياهه داخل المحيط الأطلسى لعمق 30 كيلومترا، ل”تهدر” فيه سنويا ألف مليار متر مكعب. تتشارك حوضه تسع دول، أربع منها “نيليةٌ”ً. *** فكرة المشروع الأقدم، اقترحها أباتا باشا، كبير مهندسي الري المصريين بالسودان، عام 1902. كلف أباتا نظيره البريطانى ويليام جارستين، بدراستها، فأعد تقريراً مفصلاً عام 1904، ما زال مرجعا أساسيا لحوضي النيل والكونغو. محور الفكرة، ببساطة، “عكس” اتجاه ثاني لمصب النهر.. إلى النيل شرقا إضافة للأصلي إلى الأطلسى غربا، عبر ربط الكونغو بالنيل الأبيض، فى جنوب السودان، بقناة صناعية. تجدد طرح الفكرة مرات، في الستينات تأجلت مناقشتها أمام أولوية السد العالي، ولأن الظروف الجيوسياسية لم تكن ملائمة. في السبعينيات، تقدمت القاهرة خطوة بإرسال فريق يقوده د. إبراهيم مصطفى كامل، الخبير الهندسي في مياه النيل، ود. إبراهيم حميدة، رئيس مركز بحوث الصحراء والمياه السابق، لمعاينة الطبيعة الجغرافية للنهر، ومدى صلاحية الفكرة، فقدمت تقريرا إيجابيا. بعدها، لجأ انور السادات لشركة “آرثر دى ليتل” بواشنطن، المتخصصة في الدراسات الإستيراتيجية، والمعتمدة كمكتب استشاري للبيت الأبيض، فنصحت دراستها، عام 1980، بتنفيذ المشروع، لأنه: 1- يوفر لمصر 95 مليار متر مياه مكعب سنويا، تزرع 80 مليون فدان، تزداد خلال 10 سنوات ل 112 مليارا، تسمح بزراعة نصف الصحراء الغربية. 2- يوفر للدول الثلاث -الأربع الآن- مصر، السودان، وجنوبه، والكونغو، طاقة كهربائية تكفى ثلثى قارة إفريقيا، 18 ألف ميجاوات.. 10 أضعاف طاقة السد العالى. قيمتها، إذا صُدِّرت، 21 مليار دولار سنويا. 3- يوفر للدول الثلاث 320 مليون فدان صالحة للزراعة. 4- يسمح لدولتي المصب بتخزين كميات ضخمة، في مصر بمنخقض القطارة.. وبالتبعية مضاعفة الخزان الجوفي وتخفيف ملوحته، وفي السودان عبر بحيرات صناعية بالمناطق المنخفضة. لم تخرج الفكرة للمجال العام وقتها، لكن دوائرها رصدت تحديات فنية، مثل صعوية التعامل مع الفاصل الصخري بين الحوضين، 600 كم، وقدرة النيل على تحمل التدفق المتوقع، وعراقيل قانونية تتعلق بالأحواض المشتركة، والأهم.. مخاطر “الأسر النهري” للنيل من قبل الكونغو الأقوى والأقل ارتفاعا، ما يعني “شفطه” وتحويل مساره عكسيا، ليختفي من مصر والسوادن. صدفة كانت وراء الطرح الرابع، وتفادي التحديات الأكبر، وتحويلها إلى حلم يداعب المصريين للتخلص من “واحدية” مصدر وجودهم. مارس 2011، نشطت الدولة المصرية لتفعيل تراثها الإفريقي، بداية من حوض النيل ومع أكثر دولة. ما تهمنا الكونغو، وقعت وزيرة التعاون الدولي السابقة، فايزة أبو النجا، سلسلة اتفاقات، منها منحة ب10.5 مليون دولار، لتأهيل كوادر كونغولية بمركز تدريب الرى الإقليمى في القاهرة. وحفر 30 بئرا توفر مياه الشرب ورى الزراعات البسيطة، فى 30 تجمعا بشريا. وسدود صغيرة لتوفير احتياجات الزراعة والرعى، فى تجمعات آخرى. ودراسة إنشاء سدود، متعددة الأغراض، ضمنها توليد الكهرباء. يونية من نفس العام، رعت أبو النجا استثمار مصري خاص، ضخم، في الكونغو.. شركة قابضة باسم "ساركو"، نالت امتياز شبكة طرق برية وسكك حديدية بطول 1280 كم، تعبر 22 رافدا للنهر، ومجموعة مطارات، وشركة طيران "إفراتا إير لاين"، وامتياز مناجم ذهب ونحاس وألماس، وتنقيب عن البترول، ومصنع ضخم للإسمنت، ومجمعات علاجية، وشبكة محمول. ولغياب بنية الدولة عن كيشانسا، استعانت الشركة بهيئات مصرية.. “الثروة المعدنية”، الاستشعار عن بعد”.. إلخ. أُعدت 295 خريطة، توفر معلومات كاملة عن الكونغو. أثناء العمل، لاحظ دكتور عبدالعال حسن عطية، نائب رئيس الثروة المعدنية، وقتها، تقاربا بين أفرع النهرين داخل الأراضي الكونغولية. كان “حسن” متابعا لفكرة الربط، فتجددت، مع تحويلها من “ربط” إلى “نقل” عبر 4 رافعات مياه عملاقة متتابعة، تتكلف مليار دولار. اعادت الشركة دراسة المشروع بسيناريوهاته الاولى والمستحدثة، وتواصلت مع الرئيس الكونغولي، وقتها، جوزيف كابيلا، وسلمته ما في حوزتها. يقول طارحو المشروع “المعدل”: درسناه فنيا، وتصميماتنا لدى الجهات السيادية. أضيف للمزايا السابقة: إحداث طفرة تنموية مشتركة، تعيد للقاهرة صورتها كقاطرة لتقدم القارة. 2- محطات الرفع العملاقة ستشغل مولدات كهرباء تنتج 300 مليار وات فى الساعة، تنير القارة كاملة. 3- إقامة 20 تجمعا عمرانيا، كمرحلة أولى، يفصل بينها مئتا كيلومتر لكل تجمع، بطول 4200 كيلومتر، فى الدول الأربع. لكن وزارة الموارد المائية أعلنت في يناير 2015 رفضها له، ووصفته ب “الخيالي فكرة وتكلفة”. ما أدهشني أن أسباب الرفض، الحكومي ومن خبراء، يستند في معظمه على ما تم تجاوزه في الطرح “المعدل”. *** سيناريو تشاد طرحه لأول مرة مهندس إيطالي عام 1935، فكرته ربط رافد أوبانجي، الكونغولي، عبر جمهورية إفريقيا الوسطى لمسافة 1600 كم، بنهر شاري الذي يصب في بحيرة تشاد، ومنها للنيل عبر مثلث العوينات، حيث فرع مندثر منه بالصحراء الغربية. تجدد الطرح “جزئيا” في الستينيات، كمشروع تنموي لعشرات الملايين ب 12 دولة بإفريقيا الوسطى والساحل، منها ليبيا والجزائر، واستبعدت منه فكرة المد للنيل. مع مؤشرات جفاف البحيرة، ما يهدد مصدر رزق وحياة مئات الملايين، كرر المهندس النيجيري، ج. أومولا، عام 1982، وشركة “بونيفيكا” لاستصلاح الأراضٍ الإيطالية، الطرح الجزئي، مع تصميمات فنية له. عام 1994، اقترحت لجنة حوض البحيرة (LCBC) مشروعًا مشابهًا. فقد البحيرة ل 90% من مساحتها، استتبع قمة لرؤساء دول حوضها، مارس 2008، برعاية اليونسكو، أقر خلالها المشروع.. عرف بقناة ترانسكوا، وفتح في الشهر التالي باب تقديم دراسة الجدوى. عام 2017 دخلت مجموعة “باور كونستراكشن” الصينية، المتخصصة في البنية التحتية لمشروعات الطاقة، متبنية المشروع، راصدة 14 مليار دولار كتكلفة أولية، وفق وكالة فرانس برس، 5 مارس 2018. لكن المشروع رفض من قبل المعارضة الكونغولية، وقال، موديست موتينجا، عضو مجلس الشيوخ الكونغولي، للوكالة: ” لن نحل مشكلة تشاد على حساب نظامنا البيئي”. موتينجا له كتاب “حرب المياه على أبواب الكونغو”. *** الوضع مختلف مع القاهرة، فقد حصل طارحو مشروعها على موافقة كينشاسا، وأربع دول أخرى. ومصر يمكنها التدخل لتغيير رفض المشروع التشادي الموازي، كبديل، مع إعادته لطرحه الأول الممتد حتى مثلث العوينات، وتطويره ليصبح تنمويا مشتركا. للقاهرة تراثها الإيجابي في الكونغو، التي لم تنس دعم جمال عبدالناصر نضال رمزها التاريخي، باتريس لوممبا، وأرساله قوات مصرية لحماية الدولة الوليدة، بقيادة سعد الدين الشاذلي. الأهم أن طرحها محوره “شراكة تنموية” تحدث للكونغو طفرة نوعية، بالتوازي مع تحول سياسي تشهده، بنقل سلمي نادر للسلطة في القارة السمراء، من الرئيس السابق جوزيف كابيلا، للمعارض فيليكس تشيسيكيدي، نهاية يناير الماضي، مع غالبية لحزب الأول في البرلمان والحكومة، وهو ما رأته ليلى مرزوقي، ممثلة الأممالمتحدة في الكونغو، أمام مجلس الأمن الدولي، في 24 يوليو 2019، مؤشرا إيجابيا على “إصلاحات جريئة تعزز المؤسسات وتحسن الظروف المعيشية للكونغوليين”. المشروعات التاريخية تستتبع تحديات وتكلفة توازيها، تستحقها إذا ما درست احترافيا. فقط، تحتاج القاهرة رجل دولة يجمع وعيه بين انقاذها من أن تصبح “مومياء سياسية”، كما حذر جمال حمدان إذا ما حرمت من النيل، وبين دورها القاري، لتسترد مكانتها كرمز إفريقي.. هذه المرة للتقدم، بعد ان كانت أيقونة التحرر. العرب اللندنية