تحدث كثير من الأدباء عن ( الريف ) من خلال أعمالهم الأدبية ، فكان وجوده جليا في الأدب الحديث ، إذ يعد من الموضوعات العصرية التي اشترك فيها معظم الشعراء المعاصرين ، وكان مصدر اهتمامهم ، ومن أبرزهم ( بدر شاكر السياب،عبد الوهاب البياتي ، نازك الملائكة ، علي محمود طه ، محمود درويش ، سليمان العيسى ، أمل دنقل .. وغيرهم ) . ( فالريف أروى عطش الشعراء فتغنوا بحسن جماله ، وانتشوا بنسيمه وروائحه العطرة ، فأطعمهم وأسكرهم بصوره النضرة، وأقرضهم شعره ذات مره ، ففاضوا به بفطرة وتلقائية حرة.. ففى الريف كما يقولون: الماء والخضرة والوجه الحسن . كما قالت الكاتبة " مرفت محرم " ). ومن الشاعرات اللواتي تغنين بقراهن الشاعرة التونسية "سليمى السرايري " التي كتبت أجمل القصائد عن قريتها ( تمزرط ) وهي من أقدم القرى الامازيغية في تونس . تمزرط هي إحدى القرى الشواهد التي شاخت وما تزال حية تُغالب الزمن وعوامل الاندثار وهي قرية امازيغية .. تشتهر بالمناخ البارد في الصيف ليلا وحتى في النهار نظرا لارتفاعها ويعيش الناس في تلك القرية على الفلاحة مثل الزيتون واللوز . تَمَزْرَط إحدى قرى جبل مطماطة بالجنوب التونسي، لذلك يلقبونها بأميرة الجبال نظرا لأنها تطلّ على جميع القرى المجاورة . تقع على الطريق الجهوية رقم 104، على بعد 13 كم من مطماطة وحوالي 50 كم من مدينة قابس. تمزرط في نظر الشاعرة " سليمى السرايري : هي المحبة والألفة ، وهي صحة وشرف وصدق، وهي تعبير عن زمن الهدوء والاطمئنان ، والطهر والنقاء . يدرك من يقرأ قصيدة ( تمزرط ) كيف أصبحت جزءا من نفسية الشاعرة ؟، فاتخذتها رمزا لتونس ،تمتاز القرية بطابعها الفلاحي وقلة عدد السكان ، وبوجود الأراضي الزراعية الواسعة ، والهواء النقي والطبيعة الخلابة، القرية مكان يعرف أهلها بعضهم فلا مكان لغريب ، وتمتاز بالحياة البسيطة السهلة ، و بوجود صلات عاطفية وصلة قرابة بين أفراد المجتمع القروي . ***********************.****** – تمزرط أغنية على جبين الوطن : تناجي الشاعرة قريتها " تمزرط " بكل وجد وعاطفة إنسانية دافئة ، فتقول : أنت الأرض الخضراء الطيبة المعطاء ..أنت قطعة موسيقية و شعرية مغناة ، أنت ضحكة انشق وانفلق منها سرورنا وفرحنا العطر ، أنت فراشة تزين صباحاتنا بعطر تفوح منه رائحة طيبة ، بالعطاء والأمل . ونورتِ صباحنا بألوان طيف قزح المتتالية . وتتساءل الشاعرة يا قريتي الحبيبة ( تمزرط ) كم نحتاج من وقت لنقيم ونستوطن حبك الطاهر العفيف ؟ ونفيك حقك من الحب والرفعة والشرف ، هذا الحب الذي بسط جناحيه وحركهما في فضاء سمائك الذي لا يماثله ولا يجاريه شيء في الوجود . تمزرط، يا أنشودة الحقول البعيدة…. يا ضحكة النجوم في قبّة عالية يا فراشة مطر تلون صباحاتنا بالعطر والنور وقوس قزح كم يلزمنا من وقتٍ لنسكن حبك الذي يرفرف عاليا في سماء لا تشبه هذه الأكوان…؟ – تمزرط حب تجاوز حدود العقل. تستمر الشاعرة في التعبير عن مشاعرها تجاه قريتها (تمزرط ) فتخاطبها بعشق تجاوز حدود العقل ، ألا تعلمي مدى حبي لك ، ألا تعلمي مدى اشتياقي لك ، فحبك قائم ومستمر دائم.. جئنا محملين ،( بالأمل الوطيد والرجاء القوي والتفاؤل الشديد ) ، وجئنا أيضا إليك نحمل لهيب الحب القوي الصلب والشغف المتجدد الذي لا يلين ، جئناك ( تمزرط ) بأحلام وتصورات وتخيلات جداتنا الكريمات الشريفات ، اللواتي رسخن وزرعنا زهور الحب والعطاء وحفظن بين جرار الذاكرة أحسن قصص أيام الصبا واللهو كما لونت الجدات هواءك بالروائح الطيبة المنعشة النظيفة والمشرقة ، روائح الحناء والرمان . تمزرط. .. أيها العشق الذي لا يموت جئناك محملين بشتائل الأمل وآيات الوجد الذي لا يلين. .. جئناك بأحلام الجدات الماجدات اللواتي غرسن للحب زهورا خبئن بين خوابي العسل، أجمل حكايات الصبا وخضّبن هواءك بعطور الرمان والحناء – نسمات الجنوب تغازل سفوحك . تستمر الشاعرة بالتغني بجمال قريتها ، فسفوح جبالها خضراء نضرة مطرزة بالشجر والزرع ، وغيمك ماء حياة يبعث الحياة في هضابك وسفوح جبالك … نلاحظ في هذا المقطع الشعري أن الشاعرة لجأت لأسلوب التشخيص ، حين أكسبت نسمات الريح صفات الأشخاص ، ( وهذا دليل على عواطف مشبوبة و وحس مرهف بجمال الطبيعة ) فنسمات الجنوب " عاشق " يغازل حبيبته – تمزرط – الرِّيحُ الليِّنة تودَّد وتتغزل بضفائر الحبيبة النائمة على مِسَاحَةٌ شَاسِعَةٌ من أشجار الزيتون والنخيل الكَثِيفَةُ مِنْ كُلِّ جِهَة . سفوحك خضر غيماتك مطر.. ونسمات الجنوب تغازل ضفائرك الناعسة على ضفاف غابات الزيتون والنخيل… – الحنين الصادق للجذور . تصف الشاعرة قريتها ، بلغة القلب والوجدان وترسم صوراً عذبة رقيقة تستريح لها النفس وتهدأ الأعصاب من توترها وقلقها ، ونجد في أجوائها السكينة والطمأنينة.. تمزرط .. طيف نراه في نومنا وخيالنا ، وقوس قزح أبصره الجميع في سمائك ..وهي نجمة مشعة فوق الجبال ، تفتح ذراعيها مرحبة بزوارها الكرام، ولجمال تمزرط ونقاء أجوائها وطيبة قلب أهلها ، فإن كل من يأتيها لا يرغب في مغادرتها ، خاصة من أهلها الذين تغربوا في شتى بقاع الأرض ، الذين يشدهم الشوق والحنين لموطن الآباء والأجداد ، وكأن تصورات خاصة وبطولات خارقة للعادة ترسبت في الذاكرة الجمعية لسكانها وأبنائها المغتربين من الأمازيغ …إن قدرتهم على الاحتفاظ بمورثهم الثقافي والتاريخي واستعادتهم له يدغدغ عواطفهم ويداعب أرواحهم . تمزرط أيّها الطيف الذي يتراءى للجميع نجمة مضيئة في سماء الجبال كل صباح تفتحين ذراعيك للآتي وكل من يأتي لا يغادر.. يشده ذلك الحنين الجميل للجذور.. و كأن أسطورة ما، في الذاكرة، تداعب أرواح القادمين.. تمزرط عنوان للعطاء والمجد . تخاطب الشاعرة قريتها تمزرط قائلة: أنت أغنية ( أمازيغية ) جميلة عاطفيّة ، شعريّة الطابع تتردَّد على ألسنة العامّة في المناسبات المختلفة ، تحكي مواجعهم ومآسيهم وفي أحيان مباهجهم ، لا يفهم ولا يدرك معناها إلا اهلك .. أهل الجبل ، الجبل يكبر وينمو ويتطور في مختلق حقول المعرفة والعلم ، أطفال تمزرط يترعرعون ويكبرون على تراث وحكايات أجدادهم وبطولاتهم وتضحياتهم ، كما أن من بلغ منهم مبلغ الرجال كبر بمصاحبة المجد والشرف ، والمكارم المأثورة عن الإباء والأجداد . تمزرط أنت قرية صغيرة ، ولكنك كبيرة بعطائك وجمال طبيعتك وخصوبة أرضك ، كبيرة بالفرح والسرور والبهجة التي ترسمينها على الوجوه .. تمزرط… يا أغنية أمازيغية لا يفقه معناها إلا أهل الجبل، الجبل يكبر كالطفل يكبر الأطفال على حكايات الأجداد ويشبّ الكبار على بطولات الأمجاد قرية صغيرة ، طفلة ترسمين على شفاه العطش ينابيعا وألوان الفرح الورديّ * تمزرط أنت كل الوطن . تمزرط صورة مصغرة للوطن ، ( أنتِ وطن وأنا شديد الانتماء ) أنت طفلة مدللة اعشقها وتعشقني ، " دائما اسأل نفسي لماذا لا أرى حبيبة في الحب غيرك " .. كلما أردت أن أهجرك عدت إليك. أراك حبيبتي دائما متطورة ومتغيرة نامية ، كما أراك أملا (حلماً طائراً) محلقاً اختزل قصة طويلة من الجمال ، يحوم على قمة جبل من الحب والوله . نراك وكأنك كل الوطن نراك رسومات تتجدد على جسد الخرائط حلما طائرا يختزل الجمال على قمّة جبل عاشق… – تمزرط امنحينا وقتاً لحبك . تمزرط القلب والروح… جودي علينا ببعض الوقت لنكتب لك أجمل القصائد بمواصفات كريستالية شفافة وقوية ، ولنرسم على شبابيك أجمل اللوحات ، أعطنا أيضاً متسع من الوقت لنعبر عن حبنا الشديد لك ، لنهمس لك بصوت خفي حنون ، إن البعد لن يؤثر في تعلقنا بك ، فأنت تسكنين غرف ذاكرتنا المغلقة عليك ، لن يطفئ البعد حبنا لك ، ولن يطفئ اللقاء شوقنا إليك .. تمزرط . امنحينا بعض الوقت لنكتب لك أغنيات كريستاليّة ونرسم على شبابيكك عصافير ملوّنة امنحينا فسحة وجد، لنهمس لك : المسافاتُ لا تهمّ مادامت قلوبنا غابات ورد وشموع لا يطفئها الزمان… من خلال ما تقدم يتضح لنا أن القصيدة في مجملها تحكمها بنى رئيسية وهذه البنى هي : (الوطن – القرية – الحب – الحنين – الجذور – النموذج – الوطن – العطاء – المجد – الطبيعة – البساطة ) . إن قصيدة سليمى السرايري (تمزرط، يا أنشودة الحقول البعيدة ) من أفضل النماذج الشعرية الحديثة ، التي تعبر عن حب القرية ( مسقط الرأس ) فقد نجحت الشاعرة في صياغة الشوق والحب لقريتها بأحرف في منتهى الشفافية والوجد وكلمات الحنين ، بلغة مرنة رقيقة وتراكيب متينة وأسلوب سلس رقيق سهل ممتنع .