لا يوجد مبرر عقلاني مقبول لموقف الإخوان المسلمين من ثورة الغضب الثانية في الجمعة 27 مايو، ولا موقفهم من تأخير وضع الدستور بعد تشكيل مجلس الشعب، بالطبع لو كانت مطالبهم السياسية من حيث البناء السياسي للدولة المطلوبة والحقوق والحريات التي يضمنها الدستور المنتظر وبناء ديمقراطية حقيقية واحدة – أي المطالب - بين الإخوان والسلفيين وأصحاب رؤى الإسلام السياسي من جانب، وأصحاب رؤى الدولة المدنية على اختلاف توجهاتهم من جانب آخر. ووفقا لهذا المنطق كان ينتظر من الإخوان المسلمين والسلفيين أن يرفضوا المشاركة في جمعة الغضب الثانية وفقط. أما أن يشنوا حربا شرسة على القوى الداعية للتظاهرة، وأن يرمونهم بالخيانة والالتفاف على مطالب الشعب، والأسوأ من ذلك أن يصنفوا الداعين إلى التظاهر في صفوف الثورة المضادة، والأسوأ من الجميع أن يستعدوا المجلس الأعلى للقوات المسلحة على المتظاهرين، ويصوروا التظاهرة على أنها تشكيك في المجلس وفي نواياه وخارطة الطريق التي اعتمدها للمرحلة الانتقالية، فإن ذلك كله يؤكد أن أصحاب رؤى الإسلام السياسي لا يضمرون خيرا لهذا الوطن، ويريدون على وجه الخصوص أن ينفردوا بوضع الدستور القادم. وإلا فما المبرر لكل هذه الحرب التي يشنها الإخوان والسلفيون على ثورة الغضب الثانية، وما المبرر لأن تفصل هذه القوى نفسها عن كل قوى الشعب وثورته منذ أن أعلن الرئيس المخلوع تنحيه؟ لقد أفزرت الثورة تحالفات واصطفافات جديدة بين القوى السياسية الفاعلة على ساحة العمل العام مصر، لعل أبرزها ذلك التحالف الواضح بين الإخوان المسلمين والسلفيين على ما كان بينهم من عداء سابق. إذ يبدو أن أصحاب أيديولوجيات الإسلام السياسي قد تناسوا خلافاتهم البينية ووحدوا صفوفهم ضد القوى الأخرى. وهو أمر يجب أن يتخذ في الحسبان وأن تتخذ الأفعال الكفيلة بعدم انفراد هؤلاء الرجعيين على عملية بناء الدولة الجديدة. وبعيدا عن الاصطفاف، فإن بروز رموز السلفيين على شاشات الإعلام وتدخلهم في الخطاب السياسي، بزيهم التقليدي من جلباب أبيض قصير وطاقية "شِبيكة" أحد إفرازات الثورة، وظاهرة يجب أن نتصدى لها. فالسلفيون الذين كانوا يرفضون الحديث في السياسة أو التظاهر أو المطالبة بالديمقراطية باعتبارها أمور ليست من الإسلام، بل وكانوا يرفضون الخروج على الحاكم، وكانوا على حلف معه، يقومون فيه بدور تغييب وعي الناس وتزييفه بقضايا ساذجة غيبية لا تسمن الناس ولا تغنيهم من جوع، ها هم يتحدثون في السياسة ويتبنون خطاب الإخوان، وهو تحالف رجعي كفيل بأن يسرق ثورة مصر، وينقلنا إلى دولة دينية نتمنى فيها أن يعود مبارك ونظامه. إن هذا الحرص من جانب القوى الدينية الرجعية على تأخير وضع الدستور إلى أن يتشكل مجلس الشعب لا بد أن له أهداف خاصة بهذه القوى، وليس بمصر ودولتها الديمقراطية المبتغاة. فلو كانوا يريدون من الدستور المنتظر ما تريده قوى الدولة المدنية، لما كان هناك مبررا لكل هذه الحرب من جانب القوى الدينية، ولما كان هناك داعيا لأن يفصل الإخوان "البرجماتيون النفعيون" أنفسهم عن قوى الشعب الثورية الأخرى. فلا بد أن تلك القوى الدينية الرجعية تضمر لمصر ما لا تعلنه في المرحلة الحالية. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هو ذلك الذي تضمره تلك القوى لمصر ودستورها المنتظر؟ والخوف كل الخوف أن يكون هؤلاء يجهزون لنا في سردايبهم وأقبيتهم نسخة من ديمقراطية ولاية الفقيه على طريقتهم. وساعتها لن يكون من حق أحد منا أن يتظاهر أو يرفض أو حتى يتحاور لأن من يضعون الدستور ساعتها سيكونوا ممثلي الشعب. وقد أثبت الاستفتاء على التعديلات الدستورية أن تلك القوى ناجحة في ابتزاز الشعب المصري بخطابها ومفرداتها الدينية. لقد بُح صوتنا قبل الاستفتاء على التعديلات أنه يجب وضع الدستور قبل أية مؤسسة أخرى، حتى ولو كانت البرلمان. وكانت مبرراتنا لذلك كثيرة، من أهمها أنه لا يجوز أن تتشكل أية مؤسسة دون الوثيقة التي تحدد عمل هذه المؤسسة وصلاحياتها، وأنه في حال انتخاب مجلس شعب قبل الدستور يتوجب حل هذا المجلس بعد وضع الدستور، فضلا عن مبررات أخرى وجيهة كثيرة. لكن ما أن كشفت القوى الدينية عن وجهها الإقصائي، فإنها بذلك قد كشفت عن أقوى الدواعي لوضع الدستور أولا، وهو أن تشارك كل القوى والفاعلين السياسيين في عملية وضع الدستور وتحت رقابة الشارع الثائر في ميادين التحرير. فلا بد أن يوضع الدستور في أثناء المرحلة الانتقالية الثورية، لكي نضمن أن تشارك كل القوى في وضع تلك الوثيقة التأسيسية، ولكي يكون الشعب بكل أطيافه رقيبا على تلك العملية، ولكي تكون مؤسسة الشارع في موقعها الفاعل، قبل أن يتشكل برلمان تهيمن عليه قوة واحدة، تنفرد بوضع الدستور، وتوجه بناء الدولة ودستورها في الاتجاه الذي تريد، وقبل أن تقصي جميع القوى الأخرى بدعوى أنهم ممثلو الشعب المنتخبون. لقد أخطأ المجلس الأعلى للقوات المسلحة عندما صم آذانه عن كل من رفضوا الاستفتاء أصلا وطالبوا بالدستور أولا، لكن القطار لم يفت المجلس ولا مصر، ولا يزال بالإمكان وضع الدستور الآن، بل يجب أن يوضع الآن. وإلى أنصار "الإرادة الشعبية" المزيفين، من الإخوان والسلفيين، نقول أن الشعب خرج للاستفتاء على تعديلات دستورية، ليجدوا المجلس الأعلى يغير اسمها بعد الاستفتاء إلى إعلان دستوري، وهذا ينقض العملية برمتها. خلاصة القول أننا لو كنا نريد دستوريا ديمقراطيا ليبراليا ودولة قانون تفصل بين السلطات وتضمن كافة الحقوق والحريات التي تضمنها الدول الديمقراطية الحديثة فلا مناص من وضع الدستور قبل انتخاب البرلمان، وإلا فولاية الفقيه قادمة. دكتور مصطفى قاسم [email protected]