إن أجمل ما قرأنا وتأثرتنا به، في مراحل التكوين الجامعي هو نظرية “التحدي والإستجابة” لصاحبها “آرنولد توينبي 1889 – 1975م”، على اساس ان هذه النظرية قد نشأت في موسوعته التاريخية المُعنونَة ب “دراسة للتاريخ” الواقعة في إثني عشر مجلَّدا، حيث أنفق توينبي واحد وأربعين عاماً في تأليفها. و التي من خلالها يُفسّر توينبي نشوء الحضارات الأولى، أو كما يسمِّيها “الحضارات المنقطعة” من خلال نظريّته الشهيرة الخاصة ب “التحدي والإستجابة”، والتي استلهمَها من عِلم النفس السلوكي، وعلى وجه الخصوص من “كارل يونغ 1875 – 1961م” الذي يقول أنَّ الفرد الذي يتعرض لصدمة قد يفقد توازنه لفترةٍ ما، ثم قد يستجيب لها بنوعين من الإستجابة: إستجابة سلبية: النكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسك به تعويضاً عن واقعه المُرّ، فيصبح إنطوائيّاً إستجابة إيجابية: تَقَبُّل الصدمة والإعتراف بها، ثم مُحاولة التغلُّب عليها، فيكون في هذه الحالة إنبساطيّاً. و الواقع الصريح هو ان الاستجابة الثانية، هي التي يمكن ان تنطبق على رد فعل العاهل المغربي، الملك محمد السادس كنوع من التحدي لارادة المس بالوحدة الترابية للمملكة و محاولات خدش السيادة الوطنية، لاسيما في السنة الماضية، قبيل اصدار الاممالمتحدة لقرار، مخلفا صدمة مدوية في المغرب، وهو القرار اللاتاريخي و القاضي بتأييد مطلب جبهة البوليساريو والجزائر في توسيع صلاحيات المينورسو، لتشمل مراقبة حقوق الانسان في الصحراء المغربية، انها الصدمة التي هزت كيان الأمة المغربية في هويتها التاريخية و السياسية. وقد كان للتحرك الملكي نحو الخارج دور حاسم في إنقاذ البلاد من تداعيات تبني مجلس الأمن للقرار، وقد ظهر للفاعلين الدوليين و المتآمرين اقليميا وزن العاهل المغربي لدى الدول العظمى، فهو إذا انتصار ملكي للوطن، وأيضا تحذير للدبلوماسية المغربية و الهيئات الحزبية والمدنية للعمل بشكل أكثر فعالية وعمق تجاه قضية الصحراء الوطنية. و في هذا السياق الدقيق و الحساس فعلى الحكومة من الناحية التاريخية و المسؤولية السياسية، ان تجتهد اكثر في ايجاد فلسفة تواصل اجتماعي حقيقي و تعبئة وطنية شاملة. ومن جهة اعتبارهم ممثلي الامة، فانهم يمارسون السلطة من خلال تذبير الشأن العام، بقوة التمثيلية البرلمانية المفعمة بروح مقتضيات ديقراطية الدستور الجديد. ان يستلهموا احد دروس أفلاطون في السياسة، التي فهم من خلالها أن السلطة هي وحدها القادرة على لجم السلطة ومنعها من تجاوز الحدود في التعسف والبطش والظلم، وبالتالي فلا ينبغي أن نترك نزوات المدبرين للشأن العام أن تأخذ كل أبعادها وتقود إلى الاستبداد والكوارث، وإنما ينبغي تحجيمها أو لجمها عن طريق القوانين والتشريعات، كما رأى أفلاطون أنه حتى الديمقراطية يمكن أن تحمل في طياتها بذور الطغيان والتعصب والظلم إذا لم تقودها القوانين العادلة والحكيمة. اما في هذه السنة فقد عادت الاممالمتحدة الى عادتها القديمة، بحيث تضمن تقرير بان كي مون حول الصحراء إشارة أن الهدف النهائي يجب أن يكون هو إرساء مراقبة دائمة ومحايدة ومستقلة لحقوق الإنسان في الصحراء وتندوف”. غير ان بلاغ الديوان الملكي قد اكد على ضرورة الحفاظ على الآليات الحالية، من خلال دعوة العاهل المغربي في مكالمة هاتفية، الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى ضرورة الاحتفاظ بمعايير التفاوض كما تم تحديدها من طرف مجلس الأمن، والحفاظ على الإطار والآليات الحالية لانخراط منظمة الأممالمتحدة، وتجنب المقاربات المنحازة، والخيارات المحفوفة بالمخاطر محذرا من أن أي ابتعاد عن هذا النهج سيكون بمثابة إجهاز على المسلسل الجاري ويتضمن مخاطر بالنسبة لمجمل انخراط الأممالمتحدة في هذا الملف. اليوم استطاع المغرب، عبر الإجماع الوطني حول قضية الوحدة الترابية، قطع الطريق على أعداء هذه الوحدة ودفع خصومها للبحث عن حلول نشاز، خارج ما هو متعارف عليه في المنظومة الدولية من خلال "حل سياسي متوافق عليه"، وهو الحل الذي ترجمه المغرب على أرض الواقع بطرح مبادرة الحكم الذاتي الموسع في الأقاليم الجنوبية. وقد صنّف معهد بوتوماك للأبحاث السياسية المغرب على أنه منطقة حيوية بالنسبة إلى الولاياتالمتحدة الأميركية سواء في مجال الطاقة أو بهدف ضرورة القضاء على التهديد الإرهابي الذي يهدّد الفرص الاقتصادية التي تتيحها المنطقة. يحمل التقارب الجديد بين الرباط وواشنطن رسائل واضحة للمعادلة الأميركية التي تبحث عن تحقيق التوازن الملموس للقوى الفاعلة في المنطقة. وهذا التوازن يتحقّق بالاعتماد على بلدان تعيش استقرارا سياسيا ومجتمعيّا وبها مؤسسات قوية وإمكانيات بشرية وأمنية تخوّل لها القيام بأدوار استراتيجية وعسكرية، خاصة في ملف محاربة الإرهاب في المنطقة الأفريقية . و في هذا السياق لابد من تدبر دروس مكيافيل و نصائحه للامير ونصائح لسياسي فقد مواقعه ومناصبه في بلد تحكمه دويلات مدن صغيرة ضعيفة تفتقد إلى الوحدة ما جعلها هدفاً للغزاة والطامعين من القوى العظمى وقتها فرنسا وأسبانيا. بحيث كان ينطلق من موقف فلسفي مفاده أن الناس بطبيعتهم أشرار وخبثاء "ناكرو جميل، متقلِّبون، مراؤون ميّالون إلى تجنب الأخطار، شديدو الطمع وهم إلى جانبك طالما أنك تفيدهم" .. وهذا الموقف قد عززه من بعد ذلك توماس هوبز في القرن السابع عشر. وربما كان ميكافيللي متسقاً في ذلك مع الإرث الثقافي الروماني بمرجعيته اليونانية التي تتميز فيها الحياة الاجتماعية بطبقية حادة. ولذلك على الفاعلين السياسين و المدبرين للشأن العام الا يكونوا ضحية الحكم المسبق، عندما نعتقد ان السياسة فعل متاح للجميع، اليس هذا تصور خاطئ للسياسة؟ اليس هو الخلط ما بين المجتمع و الدولة ؟ فهل السياسة دائما هي تذبير الشأن العام؟ بلى، ففي نظر صاحب كتاب الجموهورية" فانه يتصور ان الاكفاء هم الذين عليهم التذبير و الحكم على اساس ان السياسة هي نوع من التضحية، التكوين و التربية. و على الحاكم ان يعلم الشعب، الجاهل بما ينفعه و يصلح له لانه ادرى بمعرفة الخير، العدالة و الديمقراطية.