تستنزف ليبيا احتياطيات البنك المركزى وتوقف مشروعات بنية تحتية لمواجهة أزمة موازنة هى الأسوأ منذ عشرات السنين بعد أن فقدت الحكومة جميع إيراداتها تقريباً بسبب سيطرة جماعات مسلحة على منشآت نفطية. وتراجعت صادرات النفط التى تمثل شريان الحياة فى ليبيا إلى أقل من 100 ألف برميل يومياً الأسبوع الماضى بعد أن أغلق رجال ميليشيات اثنين من الحقول الكبرى عقب إغلاق محتجين موانئ فى شرق البلاد للمطالبة بحكم ذاتى لمنطقتهم. وكانت الصادرات تجاوزت مليون برمل يوميا قبل أن تبدأ ميليشيات مسلحة ساهمت فى الإطاحة بمعمر القذافى إبان الحرب الأهلية عام 2011 فى السيطرة على منشآت نفطية الصيف الماضى لانتزاع حصة من الثروة النفطية بالبلاد. وتنذر أزمة الميزانية بتسارع انزلاق ليبيا إلى هاوية الاضطراب فى ظل ما تواجهه الحكومة الهشة من صعوبات فى بسط نفوذها فى بلد تعرقل فيه كتائب مقاتلى المعارضة السابقين المدججين بالسلاح جهود الحكومة الرامية لإحلال الديمقراطية. ويبدو من المستعبد حدوث انهيار وشيك للدولة على الأقل فى الأشهر القليلة القادمة، وجمعت ليبيا احتياطيات أجنبية تزيد قيمتها على 130 مليار دولار أثناء فترات ارتفاع أسعار النفط. غير أنه تم إنفاق 16 مليار دولار منذ الصيف الماضى مما يحول دون تنفيذ خطط لإصلاح وترميم الطرق والمدارس والمستشفيات المتداعية. وقال عبد السلام نصية النائب السابق الذى كان يرأس لجنة الميزانية فى المؤتمر الوطنى العام (البرلمان) حتى وقت قريب "الوضع سىء جدا". ولم يصادق البرلمان على ميزانية لعام 2014 نظرا لعدم وجود أموال كافية للإنفاق إذ تشكل صادرات النفط والغاز 95 % من دخل البلاد. وأثر فقدان الحكومة سيطرتها على بعض المعابر البرية سلبا على الرسوم الجمركية التى تمثل أحد مصادر الدخل القليلة غير النفطية، ولا يدفع ضرائب فى ليبيا سوى قلة. ويقول مسئولون، إن إيرادات النفط فى أول شهرين من العام الحالى بلغت 16% أو أقل من المستوى الذى وضعت الميزانية على أساسه. وقدم البنك المركزى قرضا عاجلا بقيمة مليارى دولار للحفاظ على تماسك الدولة ووفائها بالتزاماتها، وكان البنك قدم بالفعل 800 مليون دولار إلى وزارة الكهرباء التى تواجه انقطاعات فى التيار الكهربى. ويتوقع دبلوماسيون، أن يستنزف البنك المركزى المزيد من احتياطياته الأجنبية، نظراً لأن تقليص الميزانية البالغة 53 مليار دولار ليس خيارا متاحا أمام حكومة ضعيفة غير مؤهلة لاتخاذ إجراءات صعبة. وجرى إنفاق نحو 70% من ميزانية 2013 على رواتب القطاع العام والدعم الحكومى لجميع السلع من القمح والبنزين إلى تذاكر الطيران فضلا عن رجال الميليشيات المدرجين على جدول الرواتب الحكومية، والدعم الحكومى السخى إرث من عهد القذافى يهدف إلى إرضاء الليبيين والسيطرة على الاضطرابات الاجتماعية. وقال نصية، إن الحكومة بدأت فى استغلال صندوق ادخار خاص بقيمة نحو 12 مليار دينار (عشرة مليارات دولار) للاستمرار فى دفع الرواتب وهو صندوق كان مخصصا للأجيال القادمة، وأضاف أن ليبيا سجلت العام الماضى عجزا فى الميزانية بلغ نحو ستة مليارات دينار. وبينما تحتاج الحكومة بشدة إلى خفض الإنفاق إلا أن الميزانية تتجه بالفعل إلى الارتفاع هذا العام، وتدعو الميزانية المقترحة إلى زيادة قدرها مليارا دينار بعد أن وافقت الحكومة على زيادة الرواتب بنسبة 67% للعاملين فى قطاع النفط فى محاولة فاشلة لكسب ولائهم. ويتمثل التحدى الرئيسى الذى تواجهه الحكومة فى الميزانية فى القطاع العام المتدهور وهو أيضا إرث تركه القذافى الذى أدرج معظم البالغين على جدول الرواتب لإسكات أى معارضة. وقال المحلل السياسى صلاح البكوش أن هناك 22 ألف جندى على جدول الرواتب فى بنغازى ولكنهم لا يعملون على ما يبدو، ويجوب مسلحون إسلاميون وغيرهم من رجال الميليشيات الشوارع دون أن يعترضهم أحد بينما تشهد البلاد تفجيرات لسيارات ملغومة واغتيالات بصفة شبه يومية. واعتاد الليبيون أيضا على شراء رغيف الخبز بسنتين أو دفع 70 دولارا لشراء تذكرة رحلة جوية داخلية تستغرق ساعة فى إطار دعم حكومى باهظ التكلفة تبناه القذافى ويخشى الحكام الجدد إلغاءه خشية اثارة اضطرابات اجتماعية. وظهر مسئولون من البنك المركزى فى بث تلفزيونى مباشر ليضعوا حدا لشائعات انهيار الدولة قائلين أن احتياطيات النقد الأجنبى فى ليبيا من شأنها أن تحافظ على قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها. وقال محمد سالم نائب محافظ البنك المركزى لقناة النبأ التلفزيونية الأسبوع الماضى، إن الاقتصاد يمكن أن يصمد لعامين ونصف العام رغم ما يواجهه من صعوبات بالغة. فى الوقت نفسه كشف المسئولون الذى يميلون عادة للتكتم عن أن الاحتياطيات تراجعت إلى 116 مليار دولار من 132 مليارا فى الصيف. وقال سالم، إن بلاده تحتاج إلى سياسة اقتصادية محكمة لتغيير القواعد التى تعانى منها، مشيراً إلى أن رواتب القطاع العام تشكل عبئاً. ويحذر محللون من أن جزءا من أموال البنك المركزى موجود فى صورة أصول غير سائلة بالخارج مثل السندات القابلة للتحويل فى حين ستحتاج البلاد إلى سيولة دولارية لحماية الدينار الليبى. وقال النائب السابق نصية، إن البنك المركزى لا يمكنه الاستمرار فى تمويل الميزانية خلال العام بأكمله، مضيفاً أن هناك حاجة للدولارات لسداد ثمن الواردات. ولا تنتج ليبيا العضو فى منظمة أوبك أى أغذية تقريبا، وهو ما يضطرها إلى استيراد السلع الأساسية مثل الحليب والجبن والطماطم من أوروبا أو الدول العربية، وحتى الهريسة الحارة التى يعشقها الليبيون تأتى من تونس. وقال حسنى بى الذى يرأس إحدى كبرى الشركات الخاصة التى تبيع منتجات متنوعة من السلع الاستهلاكية الغربية إلى أصول الصناديق الاستثمارية إنه يتعين على البنك المركزى خفض قيمة الدينار بسبب العجز التجارى المتنامى. وأضاف أنه يجب خفض قيمة الدينار إلى دينارين على الأقل أمام الدولار، ويبلغ سعر الصرف الحالى للعملة الليبية 1.25 دينار للدولار. وذكر أن الإيرادات النفطية قد تصل إلى 20 مليار دولار هذا العام انخفاضا من نحو 50 مليار دولار فى 2013 بينما تصل تكلفة الواردات السنوية إلى 30 مليار دولار. وتزيد فاتورة الواردات مع السيطرة على المنشآت النفطية التى تتسبب فى قطع الإمدادات عن المصافى المحلية وهو ما دفع وزارة النفط لزيادة واردات البنزين إلى 650 مليون دولار شهريا بما يزيد بمقدار الثلث عن الحجم المعتاد وفقا لإحدى شركات تجارة النفط. وتتزامن أزمة الميزانية مع أزمة سياسية تعرقل انتقال ليبيا إلى الديمقراطية، ويأخذ المستثمرون المحتملون جانب الحذر بينما يفكر كثير من الليبيين فى مغادرة البلاد للهروب من الاضطرابات والجرائم. وألغت ليبيا مؤخرا مؤتمرين كبيرين للأعمال أحدهما خاص بقطاع النفط والغاز والآخر خاص بالتمويل الإسلامى وكانا يهدفان لجذب المستثمرين الأجانب. وفى العاصمة طرابلس تخلو المطاعم فى الغالب من الزبائن، بينما تقول المتاجر ومن بينها متاجر بيع الملابس والمجوهرات والمتاجر الكبرى إنها تعرض خصومات كبيرة لجذب الزبائن الذين يعرضون عنها. وقال حسنى بى الذى تراجعت مبيعات شركته 20% خلال الأشهر الثلاثة الماضية أن الكثير من الليبيين الأغنياء والأقل ثراء يأخذون أسرهم إلى أماكن أكثر أمنا خشية المجهول وخوفا من الجريمة.