إن طامة العرب الكبرى هي البراعة في التفتيش في النوايا و التنقيب عما في الصدور لاتهام كل مختلف في الرأي في نواياه و ربما التشكيك في دينه في كثير من الأحيان. إننا نحفظ مخزوناً تراثياً لا بأس به من الفاظ التخوين والتشكيك من عينة خائن و عميل و منبطح و انهزامي إلى آخر هذه القائمة التي لا تنتهي و التي نطلقها كالرصاص الطائش على كل من يختلف معنا. الكل ينطلق من مبدأ إن لم تكن معي فأنت ضدي ، وإن لم تكن صديقي فأنت عدوي اللدود ، و إن لم توافقني الرأي فإنك تعارض الشرع و ستحشر مع فرعون و هامان و قارون. الأمور كلها مختزلة في لونين : الأبيض و الأسود ، مع أن بين اللونين ألوان كثر ، كما يمكن تركيب ألوان أكثر ، و لو تمهلنا لأدركنا أن سر جمال قوس قزح في تعدد ألوانه ، و أن خيلاء الطاووس يأتي من اعتزازه بالألوان الزاهية المختلفة التي تزين ذيله. ليس بالضرورة إن لم أكن معك أكن ضدك فربما لي رأي محايد يخصني لا أتفق فيه معك أو مع خصمك ، ربما أنتمي إلى نفسي و لا علاقة لي بمعسكرك أو بمعسكر خصمك فلا أصنف في خانة صديق كما لا أصنف في خانة عدو ، و من قال إنك و وجهة نظرك تمثلان الراي الصح أو تنطقان باسم الشرع فإن اختلفت معك أخطأت و اختلفت مع الشرع ؟! كل هذه الأفكار تدور في رأسي و أنا أمارس هوايتي الغريبة : قراءة تعليقات القراء على أي خبر. ما إن أبدأ حتى أرى القراء و قد انقسموا إلى فسطاطين ، كلاهما يتهم الآخر بالخيانة و العمالة مع أن الخبر ربما لا يستحق كل هذا الجدل. خير مثال و نموذج لذلك ما نراه من جدال و سجال بين المؤيدين و المعارضين للدكتور أحمد شفيق ، بين المؤيدين لاعتصامات التحرير و المعارضين لها ، هذا السجال الذي وصل أحياناً إلى درجة السب العلني بأقذع الألفاظ التي تطول الأم و الأب و التي تقع صراحة تحت طائلة القانون. لقد ضاق الفريقان ببعضهما ذرعاً و انشغلا بتوجيه الاتهامات إلى بعضهما : فالفريق المؤيد هو بالضرورة إخوان مسلمون ، و الفريق المعارض هو بالضروة من فلول الأمن و الحزب الوطني و قادة الثورة المضادة من النظام السابق. لا أحد يرغب في سماع وجهة النظر الآخر ، و لا أحد من الفريقين يصنف الآخر في غير هاتين الخانتين. و السؤال هنا : أليست بمصر أطياف غير هذين الطيفين ؟ أليست هناك هناك وجهات نظر مغايرة للفريقين ؟ أليس من الخطأ أن يتحدث واحد باسم الكل و كأنه المفوض الرسمي و الناطق الإعلامي باسم جموع الشعب ؟ أليس من المنطق القول أن كل من يتحدث أو يكتب إنما يعبر عن نفسه و ليس له الحق في فرض نفسه و رأيه على الآخرين أو إرهابهم فكرياً بإطلاق التهم الجزافية عليهم دون أن تكون هناك سابق معرفة و إنما مجرد اختلاف في وجهات النظر؟ صراحة و أنا أقرأ كلام العقلاء من الفريقين أرى المنطق في وجهة نظريهما ، و لو أنهما تحاورا بالحسنى و تجنبا تبادل الاتهامات و أظهرا قليلاً من الثقة و حسن النية في بعضهما لتوصلا إلى كلمة سواء و نقطة انطلاق يمكن اتخاذها ركيزة للانطلاق نحو بناء مصر و تجنيبها أي مخاطر ينتظرها أعداؤها و تهوي بها إلى الفوضى لأني أعلم أن هدف كلا الفريقين هو الخير لمصر.