جامعة المنصورة: تمويل 54 مشروعا بحثيا ب 71 مليون جنيه    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 25-10-2024 في البنوك    4 محظورات على موظفي الضرائب وفقًا للقانون    استشهاد 3 صحفيين جراء غارة إسرائيلية على مقر إقامتهم جنوب لبنان    ارتفاع أسعار الأرز في اليابان بشكل قياسي للمرة الأولى منذ 53 عاما    رئيس المجلس الأوروبي: قادة التكتل سيناقشون العلاقات مع إسرائيل    نجم الروك بروس سبرينجستين: ترامب يسعى ليكون طاغية أمريكي    موعد مباراة الأهلي والعين الإماراتي في كأس إنتركونتيننتال    لا يليق.. إبراهيم سعيد يعلق علي مستوي زياد كمال في الزمالك    إجراء جديد ضد عصابة سرقة الشقق السكنية بمدينة 15 مايو    التصريح بدفن جثة جامع قمامة قتله زميله في المقطم    دبروا احتياجاتكم.. قطع المياه 8 ساعات عن مناطق في الجيزة مساء اليوم    القوات الإسرائيلية تقتل سائقا لوكالة تابعة للأمم المتحدة في غزة    هبوط مؤشرات الأسهم اليابانية في جلسة التعاملات الصباحية    قوات الدفاع الشعبي والعسكري بالغربية تنظم عدداً من الأنشطة والفعاليات    بعثة الأهلي تصل إلى القاهرة بعد التتويج بالسوبر المصري    ترتيب الدوري الفرنسي قبل مباريات الجولة التاسعة    أسعار الفراخ البيضاء اليوم الجمعة 25-10-2024 في بورصة الدواجن    سعر الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 25 أكتوبر 2024 في مصر    «الأرصاد»: استقرار الأحوال الجوية وتوقف سقوط الأمطار خلال ساعات    النشرة الصباحية من «المصري اليوم»: موعد تطبيق التوقيت الشتوي.. أماكن بيع كراسات شقق الإسكان وفيديو خناقة شيكابالا    مواعيد تشغيل مترو الأنفاق في التوقيت الشتوي    مريم الخشت تعلق على أول ظهور لها مع زوجها بمهرجان الجونة بعد زفافهما    عاجل.. وفاة والدة الفنان أحمد عصام: فقدت أغلى ما في حياتي    الموت يفجع الفنان محمد العمروسي    أحمد سلطان ل الفجر الفني: "أصدقائي من الوسط الفني وقفوا جنبي بقلبهم وأنا محظوظ بيهم ووالدتي أول من دعمني"    "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا".. موضوع خطبة الجمعة بمساجد الأوقاف اليوم    إعلام فلسطيني: استشهاد أطفال جرحى في مستشفى كمال عدوان بغزة    فتح باب التسجيل للطلاب الوافدين للالتحاق بجامعة الأزهر حتى غدٍ السبت    تراجع أسعار الذهب في بداية تعاملات الجمعة 25 أكتوبر    أيهما أفضل أداء تحية المسجد والإمام يخطب أم الجلوس والاستماع؟.. لجنة الفتوى توضح    نشرة ال«توك شو» من «المصري اليوم»: مد فترة التصالح في مخالفات البناء.. مفاجأة بشأن إهدار شيكابالا ركلة الترجيح أمام الأهلي    "البنك الحيوي" بمعهد تيودور بلهارس ينضم لشبكة البنوك الحيوية بالوكالة الدولية لأبحاث السرطان    الأردن يدعو المجتمع الدولي لاتخاذ خطوات رادعة تلجم العدوانية الإسرائيلية    سوليفان: واشنطن لا تسعى لتغيير النظام في طهران    طريقة عمل الكيكة السريعة، لفطار مميز وبأقل التكاليف    اليوم، إطلاق 5 قوافل طبية قافلة طبية ضمن مبادرة رئيس الجمهورية    حملات تفتيشية مكثفة على الأنشطة التجارية بالشرقية    بدون الالتزام بمحل الاقامة.. أين توجد وحدات المرور المميزة؟    الدكتور محمد صلاح، السيرة الذاتية لوكيل تعليم المنوفية الجديد    توزيع الطعام وزيارة المقام في الليلة الختامية لمولد الدسوقي بكفر الشيخ    الأوقاف تفتتح 23 مسجدًا بالمحافظات اليوم الجمعة    إقبال كبير من المواطنين على معرض دمياط للأثاث بالزقازيق    فريق طبي بالمستشفى الجامعي بطنطا ينجح في استئصال ورم سرطاني بالمريء    مستشار وزير الصحة ينصح الآباء: الختان جريمة ولا علاقة له بالدين والشرف    السولية يفاجئ كهربا بعد تتويج الأهلي بالسوبر المصري    رسالة صلاح عبدالله للاعبي الزمالك بعد خسارة كأس السوبر المصري.. ماذا قال؟    محمد صلاح: الزمالك قدم مباراة قوية رغم الظروف.. وجوميز أخطأ في التشكيل منذ البداية    كولر أم محمد رمضان ؟.. رضا عبد العال يكشف سر فوز الأهلي بالسوبر المصري    نشرة التوك شو| تكليفات رئاسية بتوطين علاجات الأورام وأصداء تصريحات مديرة صندوق النقد    عروض أفلام وحوار محمود حميدة، تعرف على فعاليات اليوم في مهرجان الجونة السينمائي    إم جي 2024.. مزيج من الأناقة والتكنولوجيا بأسعار تنافسية في السوق المصري    أشرف داري: فخور باللعب للأهلي.. وأتمنى وضع بصمتي في البطولات القادمة    أحمد الغندور «الدحيح» يفتتح الدورة السابعة من مهرجان الجونة السينمائي    ارقصوا على قبري.. سعاد صالح توجه رسالة نارية لفنان شهير    تجديد الثقة فى المهندس ناصر حسن وكيلًا لتعليم الغربية    مي فاورق تختتم ليالى مهرجان الموسيقى العربية بروائع الأغانى التراثية    مصرع سائق وإصابة شقيقه فى حادث إنقلاب سيارة بالمراغة شمال سوهاج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن الثورة والمثقفين والمستثنى بإلا
نشر في شباب مصر يوم 20 - 02 - 2011

تسارع النظم الحاكمة إلى إحدى طريقتين للتعامل مع المثقفين، إما استقطابهم واستعمالهم ومن ثم الإغداق عليهم ، وإما استبعادهم ومحاصرتهم ونفيهم.
و في ألمانيا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات، كشفت الوثائق عن أن عددا كبيرا من المثقفين الأكاديميين والكتاب والفنانين كانوا يروجون للنظام إلى حد كتابة التقارير للأجهزة الأمنية عن الناشطين والمعارضين.
و ثمة كتاب "الحرب الباردة الثقافية" للبريطانية ق. س. سوندرز، يوثق الأساليب، التي اتبعتها المخابرات المركزية والأمريكية لاستخدام الفنانين والأدباء في الصراع بين القطبين الكبيرين.
على أن ظاهرة استعمال النظم الحاكمة للمثقفين ظاهرة قديمة متجددة في كل النظم وعلى مدى التاريخ كله، لكنها عندنا تمثل مشكلة، لسببين ، أولهما استفحال الظاهرة وتمكنها، فطول فترة الحكام في السلطة تتيح لهم تمكين ولاء الكثير من هؤلاء المثقفين لهم ومن ثم تمكين عزلهم عن الشعب وقضاياه الملحة بل عزلهم عن رؤية الحقيقة إلا بعين الحاكم أو كيفما يشاء، والثانية تتعلق بالتاريخ الذي نقرأه لأن كثيرين من هؤلاء يصوغون مادة التاريخ الذي نقرأه.
ومن ثم فهي ظاهرة بحاجة إلى دراسة بقدر ما أننا بحاجة إلى محاصرتها، وهذا ما نأمله في المرحلة القادمة التي لا شك ستشهد تغيُّرا حقيقياً على المستوى الثقافي والإعلامي بقدر ما أنها ستشهد تغيراً على المستوى السياسي والإداري.
حقيقة ثمة إشكالية متجددة تطل بوجهها كلما تغير واحد من حكامنا إثر موت أو انقلاب أو ثورة وهي الوجوه الثلاثة التي تشكل وجه التاريخ السياسي في منطقتنا، هذه الإشكالية هي خيانة المثقفين، أو النفاق الثقافي.
لديَّ جرائد ومجلات مصرية قديمة كلما طالعتها تصيبني حالة من الضحك الممزوج بالغثيان، وتلك هي المفارقة، عندما نقرأ جريدة أو مجلة صادرة يوم 23 يوليو 1952 ، ثم نقرأ نفس الجريدة أو المجلة يوم 25 يوليو أي قبل الثورة بيوم وبعدها بيوم ونعاين تغير نبرة الخطاب من "الملك المعظَّم حفظه الله" إلى "الملك الفاسد لا أرانا الله وجهه".
ولعلنا لاحظنا ونلاحظ الآن كثير من خيانات الصابئين من المثقفين وأصحاب الأقلام ونفاقهم المعلن على صفحات الجرائد القومية والمنابر الإعلامية بعد نجاح ثورة 25 يناير في إجبار مبارك على التنحي، وكيف أنهم تحولوا عن عقيدة "الأب والابن والسيدة الفاضلة" وهم من جوقة المهللين لها إلى عقيدة الشعب المصري الذي خلع الفرعون الأخير عن عرش مصر، لعلنا سوف نقرأ غداُ كتباً تحمل تاريخاً مكتوباً متلوناً بلون أهواء هؤلاء الخونة والمنافقين من مداحي السلاطين ومرتزقة الأقلام ، وكذابي الزفَّة .. والخطورة ليست في هؤلاء الآن، ربما لأننا نعرفهم ، وربما لأنهم مكشوفون .. لكنما خطورة هؤلاء أنهم غالبا ما يشوشون التاريخ، ويزيفون الوعي، ويطمسون الحقائق على المستوى الأبعد في الأجيال القادمة، ذلك لأنهم متقلبون ، وبلا ضمير ، أو قضية في الأغلب، ومن ثم لا تعنيهم الحقائق كثيرا بقدر ما تعنيهم لقمة عيشهم والإخلاص لأهوائهم.
تلك هي الإشكالية التي قد تلقي بظلالها على مادة التاريخ ، وأعني التاريخ الحقيقي، ذلك المستثني.
والاستثناء باب واسع في النحو العربي ، وربما نحن مضطرون من باب الإخلاص لتراثنا أن نقتدي بالنحاة، الذين قسَّموا الاستثناء بالنظر إلى أداته، فوجدنا تحت باب الاستثناء : " المستثنى بإلا " و " والمستثنى بغير وسوى" و "المستثنى بخلا وعدا وحاشا" وأن كنا من باب الإخلاص لحاضرنا أيضاً مضطرين إلى التركيز على الراهن العربي باعتباره وعاءً لجملة الاستثناء نفسها.
ليس غريباً أن يكون الزمن وعاءً ، وإلا فما هو التاريخ؟.
سؤال لا يبدو صادماً .. لكنما الصدمة أن يكون التاريخ نفسه هو المستثنى ، أو أن يبدأ درس المستثنى هذه المرة من كتب التاريخ لا من كتب النحو.
لماذا إذن التاريخ هو المستثنى بإلا ؟ سؤال لا يبدو صعباً ، وإن كان مفاجئاً ، ف"إلا" هي أول الأدوات ، والتاريخ أيضاً هو أول ما يستثنيه العرب.. فما بين مقولتين يحار المرء إلا أيهما ينحاز: العرب لا يقرأون التاريخ الحقيقي، العرب حقيقة لا يقرأون التاريخ ، وإن كان كلاهما مر، وما أمرُّ من الحقيقة غير الضلال ، وما أمر من الحقيقة غير الجهل بها.
على أن الأمر لا يجب أن ننتهي به عند ضرورة قراءة التاريخ من باب الإحاطة المعلوماتية فحسب ، أو لمجرد الحفظ والاستظهار ، فما فعل القراءة غير الاستبصار، وما فعل القراءة غير استخلاص العبرة، وما بعدهما غير فلسفة التاريخ نفسه .. وهكذا هي القراءة في جوهرها : كشف واستبصار ثم الحكمة.
أي حكمة إذن أن تُستثنى مادة التاريخ من بين المواد الدراسية التي يدرسها أبناء ثلث الدول العربية ؟ على أن الثلثين الباقيين لا يدرسون التاريخ حقيقة، فلربما هم يدرسون مادة تحمل المسمى وتخلو من محتواه ، التاريخ عندهم غالبا هو تاريخ آخر قبيلة استولت على الحكم، أو تاريخ آخر حاكم صنع انقلاباً ( ثورة) أو تاريخ آخر حزب (مافيا) استبد بالحكم، أو تاريخ آخر حاكم أمر بإعادة صياغة التاريخ.. ومن ثم فأبناؤنا حقيقة لا يدرسون تاريخهم، هم يدرسون ما تم تصنيعه لهم تحت المسمى تاريخ.. لكأننا إذن مغيبون عن تاريخنا، أو لكأن تاريخنا هو المغيَّب .. ليس هذا ما يهم ما دامت المحصلة واحدة ..ما يهم هو السؤال : أين ذهب التاريخ؟ .. لماذا غاب التاريخ وحضرت الهرطقة السياسية؟.. لماذا يولد أبناؤنا ليأكلوا من المطبخ السياسي وحده؟
قد يكون غريباً أن نعي أن تاريخنا هو الهرطقة نفسها .. ولم لا ما دام رجال الأكاديميات العربية هم حراس الخطاب السياسي الرسمي، وما دام تعيينهم يبدأ من مكاتب الأمن والاستخبارات، وترقياتهم تبدأ من ملفات أمنية وليست علمية؟ .. قد يتفاءل البعض أن في جامعاتنا أقساماً مخصصة لدراسة التاريخ ، بَيْد أني لست متفائلاً البتة، ربما لأنني لا أثق في الأكاديميات العربية على عمومياتها وبمختلف تخصصاتها ، فهي مهمومة بمشكلات روتينية وإدارية تغمر اهتماماتها العلمية والبحثية،ولا توجد جهة بحثية عربية حقيقية تحترم نفسها وتقول للناس الحقيقة، أو على الأقل تبحث فيما يفيد الناس أو يمت إلى احتياجاتهم الحقيقية الراهنة، غير أنها لم تقدم على مستوى الخمسين عاما الأخيرة على الأقل ما يمكن أن نباهي به دولياً في أي مجال علمي.
نحن نعي أن أقسام التاريخ خاضعة للمطبخ السياسي، الذي يمكنه أن يركز على مساوئ الحكم العثماني دون أن يشير إلى أنها هي نفسها مساوئ الحكومات العربية الراهنة، وربما أسوأ .. أو يركز على الصراع العربي الصهيوني لأن الحاكم قال: سنحارب إسرائيل ومَن وراء إسرائيل ، ثم يُستثنى هذا الصراع من محتوى المادة لأن الحاكم عقد معاهدة صلح مع إسرائيل.. كيف يمكننا أن نثق في عقلية مؤرخ عربي يذكر لتلاميذه أن الجمهورية قامت سنة كذا ميلادية، دون أن يكون واعياً أنه يتحدث عن خرافة يكذبها الواقع .. كيف نثق في القدرات العقلية لرجل تاريخ عربي يتحدث لتلاميذه عن ملوك الطوائف وسقوط الأندلس دون أن يكون واعيا أن خطوط التاريخ ليست مستقيمة، وأن ابتداء محيط الدائرة هو منتهاها، وأن التاريخ يعيد نفسه، وانه حقيقة يتحدث عن واقع عربي راهن .. كيف نثق في رجال هم مشغولون الآن بتفريغ كل ما يغضب أمريكا من موضوعات تاريخية يشملها منهج التاريخ؟ كيف نثق في رجال مهمتهم إعادة صياغة التاريخ بتكليف من آخر حاكم تبوأ المقعد؟ .. كيف نثق في رجال يقدمون حكمة الحاكم على الحكمة التي يمكن أن يستخلصوها من التاريخ الذي يدرسون ؟ .. على أنني في حل من التطرق إلى الاهتمامات الساذجة بدراسة الكتب الملونة للحكام العرب كمواد تاريخية معاصرة .. على أنني لست بحاجة للقول أنهم معنيون بتحقيب التاريخ وتجزئته ، أكثر من عنايتهم باعتبار التاريخ الإنساني رزمة واحدة .. غير أن آليات التعليم أساساً قائمة على الحفظ والاستظهار أكثر من كونها قائمة على التحليل والاستنتاج، ومن ثم فدراسة التاريخ تعني التركيز على العنصر الحكائي ، المفترض أننا لسنا معنيين بتاريخنا فقط أو هكذا يجب ، لأن تاريخنا ليس منفصلاً عن التاريخ الإنساني برمته.. فما بالنا وقد حصرنا مادة التاريخ ومحتواه في آخر وجه قبيح يبدو لنا، وعكفنا على استظهاره، ولا أقول تأمله أو استقرائه؟ .. وما بالنا نسم كل وجبة لتاريخ نلوكها ب" الحديث" .. صحيح أن كل حقبة هي حديثة بالنسبة لسابقتها، لكن إشكالية "الحديث" عندنا باتت مضحكة، فالذي قرأ مادة التاريخ قبل سقوط نظام صدام بشهر سيجد على الغلاف" التاريخ الحديث للعراق " أو تاريخ العراق الجديد" وهما لاشك نفس ما تحمله عناوين كتب التاريخ بعد سقوط نظام صدام ، مع اختلاف المحتوى .. ولا أقصد بالمحتوى الأحداث التاريخية نفسها وإنما قصدت إلى اختلاف منظور الرؤية التأريخية .. فالكتب الأولى تركز على إبراز صورة صدام البطل حامي البوابة الشرقية وصانع العراق الحديث، في حين أن الثانية ستركز على صورة صدام الهادم لكل القيم والأخلاقيات ومدمر العراق الحديث.. الأمر سيتأكد معه أن كلمتي" التاريخ" و "الحديث" كلمتان عربياً تعنيان الهرطقة السياسية، وتعنيان أن تحديث التاريخ عملية رخيصة إن لم تكن دنيئة، خاضعة بالدرجة الأولى لأهواء الساسة، فضلاً عن مجانيتها إذ يمكن أن تتم بنجاح انقلاب سياسي في غفلة من حاكم ما، الأمر لا يعدو كون التأريخ مهمة مناسبة بفضل هؤلاء للنفاق السياسي؛ فالذي قرأ التاريخ المصري قبل ثورة 22 يوليو في مصر بأسبوع واحد لا يقرأ نفس المضمون الذي يقرؤه بعد الثورة ورحيل الملك فاروق بأسبوع واحد ، والذي قرأ تاريخ ثورة 22 يوليو في مصر قبل اعتقال "محمد نجيب" بأسبوع واحد يقرأ مادة مختلفة عن تلك التي يقرؤها بعد اعتقاله بأسبوع واحد أيضاً .. أمر طبيعي أن ثمة اختلاف نوعي بين المادتين ، لكنما الذي ليس طبيعيا أن ثمة تناقضاً حاداً بين رؤيتين بينهما مسافة تاريخية لا تُذكر ، ولعل مبعث التناقض الحاد ليس نابعا من رؤية حقيقية للتاريخ ، أو استقراء مغاير لواقع جديد، بقدر ما أن مبعثه هو النفاق التأريخي الذي يتلون فوراً بلون السلطة الجديدة، والأمر قد يبدو محيراً لمن يعاين الرؤيتين: هل كان الملك فاروق صالحاً أم فاسداً ، وهل كان محمد نجيب بطلاً أم مجرماً .. المحير أكثر أن تفسيرات المؤرخين غالبا ما تتلون بلون التحليلات السياسية عندما لا تجد ما تقوله. وغالبا ما يصاب المؤرخون بالصمم عندما يصمت الحاكم .. وإلا فما تفسيرات المؤرخين لاعتقال المشير " محمد نجيب".. ما جنايته التاريخية .. فيما أظن أن الإجابة تبدأ من صدر الزعيم جمال عبدالناصر الذي رحل عن الدنيا ولم يدلي بالإجابة، وربما لنفس السبب لن نجد عند مؤرخينا إجابة أيضاً .. تاريخ الثورة المصرية كله أضحى مثيراً للسخرية حتى لأن المؤرخين مختلفون حول المسمي هل هي ثورة أم انقلاب؟ وهل عبدالناصر زعيم وطني مخلِّص أم دكتاتور وصانع النكسات.. هل مهزلة تنحيه عن الحكم بعد الثورة حقيقية أم مسرحية سياسية ؟ .. هل السادات بطل الحرب والسلام أم عميل غربي وخائن للعروبة؟ .. أسئلة من هذه العينة الساذجة التي تدور في خلد الناس يمكن أن يجدوا لها تفسيرات متناقضة عند بعض المحللين السياسيين، وأحيانا في مذكرات الساسة الشائخين، وأحيانا في مذكرات الراقصات والمطربات اللائي كن على علاقة برجال الحكم، لكن لا يمكن أن يجدو لها إجابات عند المؤرخين العرب.
لا شك أن المؤرخ العربي الحقيقي وجه غائب، ومن ثم فدوره رغم أهميته غائب .. ثمة دور باهت إذن يمكن أن يمارس تواجدا شكليا تحت مظلة الحاكم، رافعا شعارات جوفاء ما تلبث أن تنمحي ليحل محلها شعار آخر .
ثمة دور أعرج يمكن أن يباهي به هؤلاء وهم يقومون بمهمة حفرية تتعلق بتحقيق المخطوطات والآثار التاريخية .. فيما أظن أن ما نحتاجه أكثر هو تطوير آليات فهمنا لما نحققه؛ فليست المسألة هي نفض الغبار عن التراث بقدر ما أنها الوعي الحقيقي بالمحتوى التراثي، وتفسير مادته تفسيراً يهدف إلى استكشاف علاتنا الحقيقية التي تحول بيننا وبين تمثيل نفسنا في العصر، والإفادة من المادة التاريخية إفادة يمكننا معها مجابهة إشكاليات الحاضر ، وبما يسهم أيضاً في تعزيز الهوية ، والانتماء والوعي، والقيم الإنسانية.
عبدالجواد خفاجى
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.