هل يمكن أن تكون مصائب قوم عند قوم فوائد؟ ذلكم هو الهدف الوجيه من هاته الورقة، التي تحاول أن تجيب عن التساؤل الخلذوني الأصيل بشكل مقتضب و مسؤول. بحيث أن أصعب فترات الكتابة، تلك التي تتم في المراحل الانتقالية سياسيا واجتماعيا، إذ تحتد هاته الصعوبة عندما يحاصر الكاتب الصراع بين التحليل والرؤية الفكرية والاكاديمية إلى حدٍ كبير، بين موقع المثقف السياسي من جهة والمجتمعات ذات الأغلبية المحافظة من جهة ثانية، فلمن تكون الأولوية؟ ألتحليل موضوعيٍّ للحالة المغربية الراهنة أم لربط الوضعية بالقدرية السياسوية؟ ذلك أن استشعارنا المبكر و الوقائي كمواطنين متتبعين للشأن السياسي الوطني، نؤكد صراحة شعورنا بالخوف من خلال الرصد الدقيق لتدهور الأوضاع العامة و الإنسانية في دول حراك الإسلام السياسي بالوطن العربي. بحيث تشير بعض الدراسات الغربية، على أن الحالة الثورية التي يعيشها العالم العربي ليست خطاً مستقيماً متصاعداً، وأن هذه الحالة ليست واحدة لا في التاريخ ولا في الجغرافيا، وأنها كذلك ستكون متعرضة بالأساس، لثورات وهجمات مضادة في الداخل ومن الخارج، وبالتالي استبق ذلك شعور بالإحباط والندم، بمقولة التنبيه على أن مسار الثورات دائماً متعرّج وصعب، وإمكانية الانتكاسة دائماً موجودة، ولحظة القطيعة ليست دائماً متوافقة مع لحظة انفجار التناقضات. كما أن استشراف المستقبل قد أصبح مستعصيا أمام انعدام فرص إنتاج الحلول والتسويات، و سبل تنظيم المشاركة الشعبية في العملية السياسية حتى تكون فاعلة ومؤثرة، ومن ذلك التظاهر والاعتصام وغيرهما من أساليب التنديد أو المعارضة في التعبير عن الرأي. أصبح من الضروري لهاته الأنظمة أن تقدم تنازلات مبدئية لتتماشى مع صيغة النظام الديمقراطي في ظل الدولة المدنية. قد تختلف القوى السياسية التي تقود التغيير المجتمعي أو تطالب به. لكن من غير المقبول الوقوع في محظور الفتنة والاقتتال الداخلي، وإنما وجب الإسراع إلى إنقاذ ما تبقى ووقف سفك الدماء. لقد تفاقمت الانقسامات السياسية ذات البعد القبلي، العقدي و الطائفي، التي أدت إلى النزاعات المسلحة، التي من شأنها ضرب وحدة النسيج الاجتماعي وتفكيك البنية التحتية للكيانات القائمة وغير المستقرة. وما ظهور الأصولية الإسلامية منذ عدة عقود مضت وانتشارها سريعاً في صلب المجتمعات المغاربية والمشرقية سوى نتيجة الفشل في تقليد تجربة الدول الأوروبية والأميركية في استكمال البناء الوطني الجامع لمؤسسة الدولة المدنية. وما الأحداث الأخيرة بتونس الخضراء، إلا دليل على فجائية تفجر الأوضاع، و نحن لسنا بعيدين عن انفلات الأوضاع الاجتماعية بسبب ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية التي تهم المعيش اليومي لأغلبية المواطنين. فبالرغم من الاستقرار السياسي، هناك صعوبات التحكم في سيكولوجية الجماهير، التي أصبحت تند عن التأطير الحزبي و السياسي بسبب الغياب التام للأحزاب عن الساحة الاجتماعية و الفضاءات العمومية. و بالتالي فإن دقة المرحلة سياسيا و حساسية الوضع الاجتماعي العام بالمغرب من تداعيات الأزمة الاقتصادية تستوجب يقظة مؤسسات الدولة المسؤولة عن الأمن و السلم الاجتماعيين. سيما و أن تقرير المندوبية السامية للتخطيط الأخير في 6 فبراير2013، قد دق ناقوس خطر الركود الاقتصادي و استفحال الارتفاع الصاروخي للأسعار في غياب تدابير حكومية إجرائية سريعة، تعمل من خلالها على خلق الهدوء الشامل. الشيء الذي يجعل من النخب الحزبية السياسية في الأغلبية و المعارضة مسؤولة سياسيا و أخلاقيا في المستقبل المنظور عن أي سياسة حزبية ضيقة أو حملة انتخابوية جانحة. بحيث لا يجب أن ننسى أهمية موقف الاخر من طبيعة حضورنا في العالم بحيث يرى الدكتور عبد الله العروي في هذا السياق على أن: كل خطوة نقوم بها مجتمعا و دولة تكون لها تبعات أو تداعيات دولية، "يوجد اليوم مجتمع دولي، قضاء دولي، صحافة دولية، أردنا ذلك أم أبيناه. هناك اتفاقيات دولية توصي بأمور وتحذر من أخرى في مجال حقوق الجنس والفرد والأقليات. هناك مكافآت لمن يوافق وعقوبات على من يفارق، فيسمى مارقا". غير أن تجنب الخطر على المستوى الوطني، قد يتحقق إذا ما اتجهت الأوضاع بروح وطنية عالية نحو التنزيل الديمقراطي والسليم لمقتضيات الدستور في جو من الإجماع العام، والعمل على خلق حلول ذكية مثل خلق الثروة و الرفع من نسبة النمو ومحاربة التملص الضريبي و تهريب الأموال و تفعيل قانون ربط المسؤولية بالمحاسبة، و البحت عن الاستثمارات الخارجية بحكم علاقات المغرب الديبلوماسية الجيدة مع دول العالم المتقدم، و القيام بدراسات سوسيولوجية اكاديمية لضبط بنية التنظيم و التغير الاجتماعي من أجل تشخيص علمي للفئات النشيطة، العاطلة، و المهمشة بدل المقاربة الحزبية الضيقة للشأن الاجتماعي و الاقتصادي الذي ترهنه هواجس انتخابية موسمية. آنذاك يمكن أن ترتفع نسب إمكانيات النجاح السياسي و التنموي في تجربة مغرب المراجعة الدستورية الإصلاحية، التي يمكن أن تكون ممكنة بل وواعدة، في تحصين بناء الدولة المغربية الحديثة. من جهة أخرى لا يمكن أن نفصل بين الاصلاح السياسي و التنوير الفكري و الثقافي. بحيث يواجه الفكر العقلاني في تجربتنا الوطنية صعوبات الانتشار بحكم فشل النخب التقدمية في السابق و الليبرالية في اللاحق. و بالتالي فإن مقاربة القضايا المصيرية المتعلقة بتنظيم الدولة و المجتمع على اساس عقلي، يمكن من التوفيق في نظر هيجل ما بين النظم الاجتماعية و الدولة كبديل مفترض للقطع مع النزعة التقليدية الاحتوائية المطلقة. مادام تقدم الانسان مرتبط بالمعرفة التي توجهه في صراعه ضد الطبيعة و التنظيم الاجتماعي. وعليه لابد من أن ينجز "المثقف" المغربي المفترض ثورة فكرية أو ثقافية هادئة، تجعل المواطن المغربي يدرك طبيعة التضاد مابين استخدام العقل و بين الامتثال غير النقدي للأوضاع السائدة في الحياة "، فلا شيئا يعقل ما لم يكن نتيجة تفكير". بيد أن المشكل في نظر العروي كمثقف مغربي نادر في الوطن العربي الذي يرى أن " أن الداء العضال هو الأمية، أي ثقافة الأم، التربية الأولية وحلقة الوصل بين الطبيعة والمجتمع، كمفتاح لفهم وتفسير سلوك الإنسان العربي عموما والمغربي على وجه الخصوص " الأمي هو من لا يزال في حضن أمه. يتكلم بلهجتها، يتصف بصفاتها، يتوخى أغراضها، يعمل على إرضائها، يعيش في حماها ولا يتعدى أفق حياتها حتى عندما يهاجر بعيدا عنها " فكلما كانت هذه الأم قريبة من الطبيعة كلما كرست في الأبناء نوازعها كالولاء والطمع والخوف، فقد يكون الفرد متعلما وجامعيا، لكنه لم يحقق الانفصال المطلوب، أي لم يصبح فردا متحررا من عقال الولاء للأم التي ينصت إليها ويطبق وصاياها، والولاء للقبيلة أو للزاوية أو الطائفة. وعليه فإن الشرط الضامن لحقيقة التجسيد الواقعي للتحدي و التغلب على أسباب الأزمة هو ضرورة التعاقد حول ضرورة واسبقية الدولة على الفرد و المجتمع و القبيلة، أي وضع الدولة كمفهوم عقلاني و تاريخي فوق كل الاعتبارات، أي دولة المؤسسات و الحق و القانون وربط المسؤولية بالمحاسبة التي تتجاوز مصالح الافراد و الجماعات المتنافسة، عاملة على تنظيمها، وكافلة حسب كارل دوتش للوحدة الوطنية عبر تدبير الاختلافات و انواع الصراع حول المصالح، و بالتالي فالدولة الديمقراطية نواة صلبة لخلق التوازن و مواجهة إرادة التفتيت و فوضى سايكلوجية الجماهير حسب لوبون. إننا اليوم في حاجة إلى ثورة قكرية أو ذهنية هادئة لإعادة النظر في قيم العلم و الثقافة لمواجهة ظاهرة النفور من الدراسة، و النظر إلى التعليم نظرة فيها الكثير من اعادة الاعتبار لقيمة العلم و التعليم و المعرفة و الثقافة بهدف إجراء تعديلات عميقة ذات طبيعة وطنية على النتيجة التربوية و التعليمية و الاجتماعية. إن الحاجة إلى ثقافة وطنية جديدة تنم صراحة عن مظاهر ما يسميها العروي في "ديوان السياسة" الاضطراب والالتباس الذي عمّ جلّ الأحزاب السياسية، قيادات وقواعد، وصار اليأس السمة العامّة المخيّمة على الآفاق؛ عزوف عن المشاركة السياسية، ضعف التأطير، تشابه البرامج، غياب الديمقراطية داخل الأحزاب، إلى غير ذلك من الآفات والعوائق التي تزيد المشهد السياسي عقما وتعقيدا في حين يعتبر أن ما يجعل أثينا قديما ديمقراطية،: المدنية ومحدودية النطاق ووحدة اللغة والعقيدة وتجانس المجتمع وتضامنه ثم وحدة الهدف، أي « الحفاظ على المواطنة الذي يضمن الحرية والرخاء. وقد يحدث التحدي الأكبر في المستقبل المنظور أي ما بعد حكومة الحراك الاسلامي العربي، عندما تتوفر الإرادة العامة لتعاقد تاريخي وسياسي مثين ما بين "جيل مغرب ما بعد الحرب الباردة" كنخب ثقافية وطنية و الإرادة الملكية الشابة لتحرير الطاقات الفكرية و السياسية ، التي لم تجد من يسندها سياسيا وثقافيا لأداء وظيفتها التاريخية، بعيدا عن كل التصورات الحزبية الضيقة أو التكتيكات الانتخابية الموسمية، و التي تستدعي الابتعاد عن الشعبوية في التسيير شكلا ومضمونا، بدءا من سياسة هذه الحكومة تجاه القطاعات الأكثر حساسية اجتماعية ومنها التعليم و الصحة و التشغيل مرورا بالاقتصاد في علاقته بقانون مالية 2013.