لأول مرة في تاريخها الحديث تقترب مصر من بناء مجتمع ديمقراطي حقيقي؛ تتنازع فيه رؤى وأيديولوجيات مختلفة في مسعى لكل منها أن تحتل مشهد الصدارة, وتقنع الناخب والعالم بأنها الأقدر على إدارة البلاد في هذه المرحلة الدقيقة. فالشارع السياسي المصري يشهد ثلاثة قوى رئيسة لكل منها ثقلها الاستراتيجي الذي تنطلق منه؛ وهي التيار الإسلامي على اتساعه, وما يسمى بالتيار المدني على اختلاف مشاربه وتوجهاته (ويضم تحت طائلته القوى العلمانية والليبرالية واليسارية), والمجلس العسكري. فالتيار المدني يعتمد في قوة دفعه على الإعلام – المرئي والمقروء – حيث لا تكاد ترى وسيط إعلامي لا يتبنى خطابه, فضلا عن دعم غربي وعالمي واضحين له, إلا أنه خطاب نخبوي في جملته لا يقترب من واقع المواطن المصري البسيط. أما التيار الإسلامي فيعتمد علي قوة الشارع ويعبر عنه بدرجة كبيرة؛ ربما لأنه جزء من النسيج الوطني للمجتمع المتدين بالفطرة. لذلك نجد خطابه أكثر شعبوية وتعبيرا عن حاجات المواطن, وربما يفسر ذلك نتائج الانتخابات التي جاءت في صالح الأخير. وبالنسبة للمجلس العسكري, فإن قوته تأتي من إمساكه بالسلطة وتحكمه بالجهاز البيروقراطي للدولة, فضلا عن دعم معنوي كبير من جانب الشعب الذي يأمل في الاستقرار و يقدر دوره في حماية الثورة – أو بمعني أصح حياديته وعدم وقوفه بجانب الرئيس, علي النقيض مما فعلت جيوش سوريا واليمن وليبيا, إلا أنه دعم مشروط بالتزام المجلس العسكري بتسليم السلطة لبرلمان منتخب ورئيس مدني (غير عسكري) قبل نهاية يونية 2012. والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا الصدد, هل الإسلاميون فعلا هم الأقدر على تسيير دفة البلاد في هذه المرحلة؟ أظن أن نعم. فإن اتفقنا علي العرض السابق لقوة كل فريق, نجد أن التيار الإسلامي يعتمد فقط على الناخب الذي أعطاه صوته أملا في توفير حاجاته الأساسية, ويقف له بالمرصاد الإعلام والغرب المحسوبان على التيار المدني, كما أنه حتى الآن لا يملك أي سلطة تمكنه من فرض نفسه. فما الذي سيفعله الإسلاميون؟ هل ستكون أولوياتهم, قطع يد السارق أم إطعام الأفواه الجائعة؟ وهل سيهتمون بالبحث في روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس – التي يحمل البعض منها أفكار غير متفقة مع منظومة القيم المجتمعية– أم سيولون اهتماماتهم لبناء قاعدة علمية وبحثية تؤدي للارتقاء الفعلي بالمجتمع وتبحث في حل إشكالياته الطاغية وإشباع حاجاته الأساسية؟ والأهم من ذلك كله, هل سيعتمدون علي أهل الثقة أم أهل الكفاءة؟! من المؤكد أنه لا يوجد أمام التيار الإسلامي سوى أن يحسن قيادته للبلد؛ لأنه ما من ركائز أخرى يمكن أن يرتكن إليها سوى صندوق الانتخابات الذي سيلفظه إن لم يحسن في أدائه. وقد رأينا لذلك شواهد؛ فقد كان دليل حملات الكثير من المرشحين الإسلاميين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا", وهو يؤكد على أولويات المرحلة التي يركز عليها الإسلاميون (الأمن, والصحة, والاقتصاد), وهي أولويات تنم عن وعي دقيق بحال المجتمع, وتؤكد – في الوقت ذاته - زيف الدعاوى التي غالبا ما تلصق زورا وبهتانا بهم من أنهم يعيشون في كهوف بعيدا عن واقع المجتمع. أضف إلى ذلك الآليات الجديدة التي بدأ يلجأ إليها الإسلاميون الناجحون في الانتخابات في التعامل مع الشارع. فلأول مرة يشهد الشارع المصري برلماني ينزل إليه بعد نجاحه وقبل حتى انعقاد البرلمان, ويتوجه للمواطن البسيط ويتفاعل معه ويحاول حل مشكلاته (التي هي واجب علي المحليات لكنها لا تقوم به). وأقتبس هنا من إجابة أحد النواب الجدد (من حزب النور السلفي) على سؤالي له عن سبب نزوله المبكر للشارع فقال: "أردت أن يعرف المواطن أن النائب مواطن بسيط مثله يمكنه الوصول إليه في أي وقت, وأن أصل للأسباب الحقيقية لكل مشكلة قبل البحث عن حل لها". في السياق ذاته, أكد محمد نور المتحدث باسم حزب النور أنهم "مشغولون في البرلمان بالمواطنين الذين يفتقدون لخدمات الصرف الصحي وليس الذين يتعاطون الكحوليات". وهو ما يدلل بالفعل على أن الإسلاميين ليسوا الدراويش الذين لا علاقة لهم بالسياسة والحكم. وهو ما دعى الكاتب والمحلل السياسي الأمريكي توماس فريدمان للقول أن "الإسلاميين يريدون ألا يفقدوا فرصة وصولهم لبرلمان منتخب, بل إنهم يرغبون في الحفاظ علي جذورهم الإسلامية لكنهم يدركون مطالب الذين انتخبوهم في حكومة نظيفة وتعليم ورعاية صحية لا إقامة المساجد وأنه سيكون من المثير مراقبة كيفية تعاملهم مع تلك التحديدات." بيد أن ذلك لا يعني انفراد التيار الإسلامي بالسلطة, بل على العكس, فإن أولى خطوات نجاحه تكمن في إدراكه ومن ثم سعيه لإحداث توافق وطني واسع يضم كافة التيارات والقوى السياسية, لأنه لا يوجد فصيل واحد – حتى وإن نال أغلبية برلمانية – يصلح لتصدر المشهد وحده, ليس لعجز فيه أو عدم توفر البرامج والقيادات والكوادر اللازمة, بل لأن انفراده بالأمر سيفرغ باقي القوي – بكل ثقلها الاستراتيجي – للعمل فقط على إفساد مساعيه للارتقاء بالبلد, أو على الأقل التشويش عليه ومحاولة تعطيله, خاصة في ظل مناخ سياسي محتدم كالذي تعيش مصر وحداثة التجربة الديمقراطية بالنسبة لكل الأطراف دون استثناء. فحتى يتم البناء, لابد أن تجتمع كافة الأيادي. والله أعلى وأعلم سيد يونس عبد الغني مترجم وباحث أكاديمي [email protected]