قادة حزب العدالة والتنمية وعلى رأسهم أمينهم العام عبد الإله بنكيران تعجبهم كثيرا لعبة اضطهاد باقي الأحزاب السياسية، بالتعالي عليهم، باسم الدين، أو التبجح عليهم باسم العذرية والطهارة السياسية، ويتشدقون ملء أفواههم بصفاقة أخلاقية، أنهم وحدهم الذين خرجوا من رحم الشعب. لكن الواقع عنيد وعصي على التعتيم، والتاريخ قاس لا يرحم ولا يشفق. فهل نبدأ التشريح من الماضي القريب أم من الماضي البعيد؟ حتى يعلم الناس من أي رحم خرج حزب الإسلاميين، هل من رحم الشعب، أم من رحم المخزن والإدارة؟ أو لنقلها بلغة مباشرة: من مختبرات الأجهزة الإستخباراتية، حيث عمليات التهجين، والولادة بالأنابيب، وخلق النعجة: دولي. يذكر الرأي العام، أنه وفي بداية تسعينيات القرن الماضي، وعندما هبت رياح الكلاسنوست، والبريسترويكا، من شرق العالم، حيث المعسكر الإشتراكي، هبت على العالم العربي، عواصف، تذكرنا بما عليه الحال اليوم فيما سمي برياح الربيع العربي. وكان المغرب آنذاك يعيش على رعب ما وقع في الجزائر، بانفجار بركان الإسلام الأصولي السياسي ببروز جبهة الإنقاذ الإسلامية وهيمنتها على الساحة السياسية انتخابيا، ثم تدهور الأوضاع الأمنية إلى الاقتتال المسلح بعد سطوة الجيش على الحياة السياسية. آنذاك، كانت جماعة بنكيران التي سميت بجمعية الجماعة الإسلامية منذ سنة 1981، قد اختتمت الطور الأول من التكوين الذي أشرف عليه بنجاح ضابط الإستخبارات المكلف بالإشراف على التيارات الأصولية: العميد الخلطي، الوثيق الصلة بوزير الداخلية في ذلك العهد: ادريس البصري، كما ذكره هو نفسه في مذكراته، وأكده صفيه عبدالإله بنكيران في مروياته. وقد أعطي الضوء الأخضر وتحت إشراف ادريس البصري، كي تنتقل جماعة بنكيران إلى السلك الثاني من التكوين، تحت إسم جمعية الإصلاح والتجديد، وذلك إعدادا لما كان يرسمه الراحل الحسن الثاني من خارطة سياسية جديدة، لتدشين عقد سياسي جديد ينهي القطيعة والخصومة مع المعارضة السياسية في الداخل والخارج ممثلة من جهة بحزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية، ومن جهة أخرى بالتيارات اليسارية الراديكالية، حتى يستطيع النظام تحصين ذاته من النيران الملتهبة القادمة من الجزائر على الحدود الشرقية للبلاد. عندها، أخضعت جمعية الإصلاح والتجديد لتمرين سياسي على مقارعة الخصوم السياسيين، العلمانيين خصوصا، وذلك بالسماح لها بخوض الإنتخابات التشريعية الجزئية بإثنين من كبار قادتها: المقرىء أبوزيد في مدينة وجدة، ومحمد شبابو في مدينة طنجة، تحت يافطة حزب الشورى والإستقلال، والذي وظف لإحتضان التمرين السياسي واستؤجر له. وفي هذا الظرف بالضبط تولت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وبإشراف وزيرها الدكتور العلوي المدغري بصفته المهندس الإيديولوجي للحقل الديني بالمغرب، تولت الجانب الآخر من التمرين، بالتأطير النظري والفكري، وتصفية الولاء للدولة والطاعة للمخزن. وفيما كانت وزارة الأوقاف تُرضع ألبانها لمجموعة بنكيران بأحد ثدييها، كان الثدي الآخر للوزارة يُرضع مجموعة أخرى، هي مجموعة الفقيه الريسوني التي تأسست تحت إسم: جمعية رابطة المستقبل الإسلامي. وقد ساهم في تأسيسها الدكتور عبد السلام الهراس، والدكتور الشاهد البوشيخي وهما من الأصدقاء الحميمين للدكتور العلوي المدغري وزير الأوقاف بصفتهما زملاء له كأساتذة في جامعة فاس، وتربطهما به قرابة عائلية، مما سهل تقريب هذه الجمعية من حاضنها الوزير السابق. واجتازت المجموعتان معا امتحان التخرج بامتياز من حضانة وزارة الأوقاف، التي أشركتهما في الجامعة المغربية للصحوة الإسلامية في بداية التسعينيات. وفيما كان الدكتور عبد الكريم الخطيب مؤسس أول حزب إداري مخزني بالمغرب سنة 1958: الحركة الشعبية، يؤطر المجموعتين من خلال أوراش أخرى: هي جمعية مساندة الجهاد الأفغاني، وجمعية مساندة البوسنة والهرسك، ونقابة الإتحاد الوطني للشغل، في هذه الأوراش كانت النخب القيادية لجماعة بنكيران، وجماعة الريسوني، ترتوي من إيديولوجية العداء للشيوعية العالمية باعتبار أنظمتها وقادتها هم المتسببون في المجازر ضد إخوانهم المسلمين في أفغانستان والبوسنة، كما يرتوون من التقاليد المخزنية العتيقة بالخنوع والخضوع والتمسح. وفي سنة 1996، ولما قرر الملك الراحل الحسن الثاني إشراك المعارضة السياسية في الحكم ممثلة في الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية المدعومة من قبل التيارات اليسارية العائدة من المنفى، والمفرج عنها من السجون مستفيدة من أجواء الإنفتاح والمصالحة السياسية. استعد العمداء التاريخيون لدار المخزن الدكتور عبد الكريم الخطيب والدكتور العلوي المذغري والدكتور ادريس البصري، لمواجهة الوافد الجديد إلى الحكم، التحالف الإتحادي اليساري مسنودا بحزب الإستقلال تحت إسم الكتلة الديمقراطية. وأخرج المارد من القمقم بوتيرة جد متسرعة، وفي زمن استعجالي قياسي يتشابه مع أزمنة توليد الأحزاب الإدارية سنة 1958: الحركة الشعبية، وسنة 1976: التجمع الوطني للأحرار وسنة 1983: الإتحاد الدستوري. في هذا الزمن الإستعجالي أدمجت مجموعة بنكيران ومجموعة الريسوني فيما يسمى بحركة التوحيد والإصلاح، بدون أي إستشارة للقواعد البلهاء اللاهثة وراء قيادتها، وأعطي لها الترخيص القانوني على عكس ما جرت عليه عادة الإدارة المغربية مع جمعيات التيار الإسلامي. وذلك بعد أن أصدرت التعليمات السامية إلى العمداء الثلاثة لإنشاء جبهة أصولية مضادة للتحالف الإتحادي اليساري الذي يقوده عبد الرحمان اليوسفي من أجل المواجهة الإيديولوجية والسياسية. وتحرك الثلاثة لجمع شمل المجموعات الإسلامية كي تكون في سلة واحدة، كما وردت به التعليمات العليا حرفيا، مجموعة بنكيران: الإصلاح والتجديد، ومجموعة الريسوني: رابطة المستقبل الإسلامي، ومجموعة عبد السلام ياسين: العدل والإحسان . وفيما تم النجاح بسلام في إدماج مجموعتي بنكيران والريسوني في ما يسمى حركة التوحيد والإصلاح. رفض عبد السلام ياسين المخطط المخزني الذي عرض عليه في زيارة تاريخية مشهودة للدكتور الخطيب وشخصيات من وزارة الأوقاف، وشخصيات عليا مثل: مؤرخ المملكة عبد الوهاب بنمنصور. واكتفى الدكتور الخطيب بما اجتمع له في سلته، متأسفا على فشله في إثقالها بجماعة العدل والإحسان التي رفضت الدخول في لعبة قذرة. ودخل الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية إلى تجربة حكومة التناوب، محاصرا بجبهتين مضادتين له، جبهة مؤسساتية، وهي مجلس المستشارين، والذي عكف على ترتيبه وتفصيل أجزائه ادريس البصري على المقاس المطلوب، ومن أحزاب إدارته. وجبهة إيديولوجية سياسية هي حزب الحركة الشعبية الدستورية، بعد أن ابتلعت في أحشائها أصوليي حركة التوحيد والإصلاح، تحت وصاية الدكتور الخطيب، العدو التاريخي للحركة الإتحادية، والدكتور العلوي المدغري الموجه الإيديولوجي للحقل الديني، وبطبيعة الحال تحت رعاية الأجهزة المختصة لدى ادريس البصري. ولما أرادت حكومة التناوب بقيادة الوزير الأول السابق عبد الرحمان اليوسفي أن تدشن مسار تحديث البلاد عبر إنجاز ثورة تجديدية في البنى الإجتماعية التقليدية فيما عرف بالخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، نجح الأوصياء الثلاثة في إنزال الجبهة الأصولية من أجل التصدي ضد هذا المسار، عبر شن حزب الخطيب المؤثث بجماعة بنكيران وجماعة الريسوني، حربا لا هوادة فيها ضد ما أسماه بالعلمانيين والملحدين، والزنادقة. واستحقت الجماعتان لبنكيران والريسوني المدمجتان في ما سمي بحركة التوحيد والإصلاح، استحقتا بهذا النجاح أن يمنحهما ادريس البصري حق استبدال الجلباب الرث لحزب الحركة الشعبية الدستورية الذي عفا عليه الزمن، ولم يعد يصلح لاستقطاب جماهير الأصوليين، استبداله بجلباب جديد عبر تسمية جديدة هي: العدالة والتنمية، وقد كانوا يتمنون عليه منحهم تسمية أخرى هي: النهضة، لكن التعليمات كانت صارمة كما نقلها أحد عرابيهم القياديين وهو المحامي مصطفى الرميد عن ادريس البصري حينما أخبرهم في مؤتمر عام بأن السيد يرفض هذه التسمية، في واقعة تاريخية قامت له فيها إحدى الحاضرات مذكرة إياه بأنه لا ينبغي له مرة أخرى أن ينقل لهم تعليمات سيده ادريس البصري، فكان جزاؤها هو الطرد النهائي من حزب الخطيب ومن حركة التوحيد والإصلاح. في الإصطبل السياسي المخزني، قُدم لبقرة حزب العدالة والتنمية علف كثير، كل ما أخرجت للنطاح مع القوى السياسية الأخرى في البلاد لخلق المعارك الهامشية قصد التعتيم على المشاكل الحقيقية للبلاد. وكانت أخر معركة خاضتها البقرة الأصولية هي معركة التناطح مع حزب آخر هو الآصالة والمعاصرة، شقيقها في سلالة النسب المخزني. وهي معركة بات يسخر منها المغاربة، لأن طرفيها قد افتضح أمرهما في إلهاء الشعب بعداوات مصطنعة ومزيفة، في مسرحية تافهة. والتصريحات البهلوانية لبنكيران الآمين العام لحزب العدالة والتنمية كشفت كل الأدوار المنوطة بالبقرة التي تضخمت جثتها وتفاقم أمرها أكثر من الطبيعي حتى صارت ترفس أخواتها في الإصطبل السياسي ذات اليمين وذات الشمال، وأصبحت عبئا كارثيا على دجانيها ورعاتها. هذا عن الماضي القريب لجذور حزب العدالة والتنمية، وفي الحلقة الثانية سيتم إزاحة الستار عن الماضي البعيد، ذلك الماضي الذي شهدته مرحلة التأسيس، وواقعة مقتل عمر بنجلون خلال سبعينيات القرن الماضي.