- كلما اقتربت مصر خطوة نحو التفاهم مع إثيوبيا بشأن سد النهضة، فاجأتها الثانية بأخرى في الاتجاه المعاكس، تعيد طريق المفاوضات إلى نقطته الصفر. وكلما قطعت القاهرة شوطا في تحييد بعض الأطراف الخارجية، حاد واحد منها عن الصف، واتخذ خطوة تعكر صوف الأجواء. وكلما حلّت عقدة فنية، طالعتها عقد أخرى. تلخص الكلمات السابقة جانبا من الميلودراما التي تواجهها مصر مع إثيوبيا، بعد شروع الأخيرة في بناء سد النهضة، ونجاحها في الانتهاء من حوالي 50 في المئة من عملية البناء، ولا تزال القاهرة تبحث عن تفاهمات عبر المفاوضات مع أديس أبابا تقلل بموجبها الخسائر المتوقع أن تقع على عاتقها بسبب بناء هذا السد. الحاصل أن الطموحات المصرية انتقلت عمليا من مرحلة وقف البناء إلى تقليل خسائر السد، حيث تأكد أن إثيوبيا ماضية في مشروعها، وأن جميع الدراسات أثبتت وقوع أضرار مائية على مصر، وفي ظل التشابكات والتعقيدات التي يمر بها مشروع سد النهضة، محليا وإقليميا ودوليا، بدأت القاهرة تتصرف برؤية براغماتية، تقوم على تقليل الخسائر بقدر الإمكان، وحتى هذه لم تستطع الوصول إليها حتى الآن، إذ ما أن تحل أزمة إلا وانفجرت في وجهها أزمات أخرى. آخر تجليات الأزمة المستمرة كان إعلان المكتب الهولندي “دلتارس” المنوط به المشاركة في إعداد دراسات حول تداعيات بناء سد النهضة، الانسحاب من المهمة التي لم يمر وقت طويل على تكليفه بالقيام بها، بالمشاركة مع المكتب الفرنسي “بي آر إل”، الأمر الذي أربك الحسابات المصرية، ومنح إثيوبيا فرصة جديدة للرهان على مسألة الوقت، لأن الإصرار على الانسحاب يعني المزيد من التأجيل لمناقشة القضايا المحورية. اتجاهان متوازيان لكن خالد وصيف، المتحدث الرسمي باسم وزارة الري والموارد المائية، كشف ل”العرب” أن الحكومة المصرية ستسير في اتجاهين متوازيين، للتعامل مع ملف سد النهضة الإثيوبي، أولهما محاولة التوفيق بين المكتبين الاستشاريين الهولندي والفرنسي، المكلفين بإعداد الدراسات الفنية حول المشروع، وإقناع المكتب الهولندي بالعودة لاستكمال عمله والعدول عن قرار انسحابه. أديس أبابا تستفيد من عنصر الوقت لبناء السد وتضع القاهرة في موقف قد يضطرها للتسليم بالأمر الواقع والاتجاه الثاني، يرمي إلى عقد اجتماع خاص باللجان الوطنية في الدول الثلاث المعنية (مصر وإثيوبيا والسودان) للتشاور وإيجاد حلول للمشاكل الراهنة، والتي حالت دون المضي قدما في التفاهم حول عدد من القضايا المشتركة. وشدّد وصيف على أن الملف المائي المصري لا يقل أهمية عن ملف الإرهاب الذي تخوض مصر حربا شرسة ضده، وأن هناك بدائل كثيرة في حال استمرار تعنت الجانب الإثيوبي في المفاوضات. ورفض الإفصاح عن طبيعة تلك البدائل، التي يمكن اللجوء إليها، حال مواصلة إثيوبيا تمسكها بموقفها، وإصرارها على أسلوب المراوغات الذي يضر بالأمن القومي المصري. عوائق في طريق المفاوضات في ظل العقبات الهائلة التي تواجه ملف المياه، اكتفى المتحدث باسم وزارة الري المصرية بالقول، إن القاهرة تسير في الطريق الصحيح لحل المشكلة، من خلال المفاوضات، والوصول إلى حلول مناسبة، لافتا إلى أن نهر النيل ليس فقط مصدرا مائيا مهما للمصريين والتنمية المستقبلية، بل مصدر حياة، طوال آلاف السنين. مع أن وجهة النظر المصرية الرسمية التي عبر عنها وصيف، يحدوها أمل بإمكانية التفاهم مع الجانب الإثيوبي، غير أنها لم تخل من حذر، وأن احتمال استمرار المسافات المتباعدة يجب أخذه في الحسبان، وهنا يمكن أن تخرج القاهرة عن حلمها المعتاد، فقد تتخذ من الخطوات ما يمثل مفاجأة للمنهج الذي اتبعته طوال السنوات الماضية. يحمّل أيمن شبانة، الأكاديمي بمعهد الدراسات والبحوث الأفريقية بجامعة القاهرة، الجانب الإثيوبي مسؤولية انسحاب المكتب الهولندي، بعد أن تعمدت أديس أبابا تكليف المكتب الفرنسي (المتواضع) بإعداد نحو 70 بالمئة من الدراسات والتقارير الفنية. وقد أثار هذا التصرف غضب مسؤولي المكتب الهولندي، الذي أعلن الانسحاب نهائيا الشهر الماضي، ووضع مصر في مأزق كبير، بينما تستفيد أديس أبابا من هذا التنصل، بالحصول على مزيد من الوقت لاستكمال بناء السد.