الوضع في مصر بلغ درجة شديدة من الخطورة والتعقيد، الأطراف عديدة جدا ظاهرة وباطنة ويستطيع الإنسان تصور كل سيناريوهات المؤامرة.. أنا شخصيا رغم تحفظي على بعض آداء المجلس العسكري لكن لا سبيل على الإطلاق إلى تخوينه والاستعداء عليه. إن المجلس العسكري في هذه الظروف الدقيقة خط أحمر والوقيعة بين الجيش والشعب هو الطامة الكبرى وهو نهاية الدولة وبداية الحرب الأهلية، وهي حرب لا تُبقي ولا تذر. لقد اتحدت جميع قوى الشعب على إسقاط نظام مبارك ولما نجحت تصارعت وجرى استقطاب فظيع حول الدستور أولا أم الانتخابات أولا، وهذه خطيئة في حق الوطن وأنانية مفرطة من القوى التي تخشى نتيجة الانتخابات، فهم على استعداد لإحراق البلاد في سبيل ألا يتولاها فصيل منافس لهم.. يفضلون استمرار الحكم العسكري.. يفضلون الفوضى والحرب الأهلية.. وربما الخطوة التالية أنهم سيستدعون قوى الاحتلال الأجنبي للحيلولة دون وصول الإسلاميين إلى مجلس الشعب! هم يحتلون كل الفضائيات وأصواتهم مرتفعة للغاية وكلامهم زخرف القول ومعسوله ولكنهم رغم كل ذلك يخسرون كثيرا بسبب مواقفهم تلك لأنهم لا يدركون مدى ذكاء الشعب المصري. أما الفتنة الأخيرة التي بدأت من مسرح البالون فهي بحق مؤامرة معقدة دقيقة ممتدة، ربما هي مخططة من الخارج ومن الداخل وقد انساق إليها بعض الثوار غافلين عما ينصب للوطن من فخاخ وقادها البعض على علم بأبعادها التخريبية. وقد بلغت ذروة الدراما بموقعة العباسية، أظن أن الرهان من وراء الاعتصام الذي بدأ 8/7 كان هو الصدام مع قوات الشرطة أو الجيش فلما تراجعت الشرطة واختفى الجيش وأعلن عن حق الاعتصام السلمي على خلاف القانون الصادر بتجريم الاعتصام شعر المخططون أن الفرصة ستفلت للتصادم والفوضى فأخذوا بالتصعيد وإغلاق المجمع ومحاولة إغلاق قناة السويس وبورصة الأسكندرية حتى يقع الصدام والفتنة، فلما رأوا الاستنكار الشعبي الشديد عدلوا عن ذلك وأنكروا أنهم مَنْ فعل ذلك. ثم استجاب الجيش لكثير من المطالب ووعد بالمزيد ولكنهم يريدون لبن العصفور.. يريدون كن فيكون. وأجزم أن المجلس العسكري مهما فعل فلن يرضوا عن شيء أبدا. والمضحك المبكي أنهم يقولون كلاما فارغا بمنتهى الجدية.. مثلا يقول أحدهم: "لقد قامت الثورة من أجل العدالة الاجتماعية ولم نر عدالة اجتماعية"، أي عدالة اجتماعية تلك التي تتحقق في ستة شهور! أو يقول آخر: "أنا مش حاسس بالتغيير!"، والشيء المقيت حقا هو استغلال حق الشهداء كقميص عثمان فهو أمر عاطفي مثير والحكومة بدأت فعلا بالتعويض المادي والمعنوي، ويحمد للحكومة والجيش عدم التدخل في القضاء ولا يضرنا مطلقا إفلات جميع المتهمين من العقوبة في هذه المرحلة الإنتقالية المؤقتة فيمكنا دائما إعادة المحاكمات بعد استقرار البلاد تحت برلمان وحكومة ورئيس منتخبين. إن مَنْ يتصرف كأن الحكومة الحالية هي المُطَالبة بإنجاز كل أهداف الثورة فهو شخص ساذج أو شخص مغرض، إن الحكومة الحالية لها وظيفة واحدة هي تسيير الأمور حتى تسليم البلاد لحكومة وبرلمان ورئيس منتخبين.. مهمتها توفير الخبز وأنبوبة الغاز.. مهمتها توفير الماء والكهرباء.. مهمتها تنظيم انتخابات حرة نزيهة آمنة.. إذا فعلت هذا فقد أدت كل ما عليها ونشكرها على ذلك ونرفع لها القبعة. إن هذه الثورة العجيبة قد كشفت أمورا لم يكن يتخيلها أحد.. فقد رأينا قوات مسلحة تحكم باللين والهوادة وتريد تسليم السلطة بأسرع وقت لبرلمان وحكومة منتخبة ديمقراطيا، ورأينا ليبراليون لكنهم متعصبون فوضويون لا يريدون الانتخابات بل يريدون استمرار العسكر وإلا حولوا البلاد إلى حمام دماء وفوضى عارمة، ورأينا الجماعات الإسلامية المقاتلة التي حاربت نظام مبارك بالسلاح سنين طويلة ووصفت بكل أوصاف التطرف والإرهاب والتعصب والتشدد ترفض الفوضى وتدافع عن الاستقرار وتحذر من الوقيعة بين الشعب والجيش لأنه المؤسسة الوحيدة الباقية في الدولة، ورأينا ثوار شباب فجروا ثورة عظيمة يريدون الآن تشويهها والقضاء عليها.. بل يريدون القضاء على الوطن ذاته.. أي شيطان أوحى إليهم بتكرار سيناريو الثورة ولكن ضد الجيش هذه المرة.. 25 يناير عيد الشرطة وبداية الصدام معها، 23 يوليو عيد الجيش وبداية الصدام معه.. مع الاعتصام والتصعيد بالمسيرات ورفع سقف المطالب.. يعيدون نفس السيناريو باستهتار شديد وحماقة سياسية مفرطة. ولهؤلاء أقول بكل صدق وإخلاص.. أنتم شباب رائع متحمس ولكنكم تفتقدون الحكمة والتعقل والبصيرة.. انظروا إلى المصالح والمفاسد.. أنظروا إلى طبيعة المرحلة وسقف المطلوب من وضع مؤقت.. أنظروا إلى الرأي العام الذي ستخسروه تماما إذا استمررتم في إثارة الفوضى.. لا توقعوا الفتنة بين الجيش والشعب ولا تكونوا آداة في يد المغرضين الذين يستخدمون حماسكم في حربهم غير الشريفة مع تيارات سياسية شريكة في الثورة والوطن وإن اختلفوا في المرجعية والأيدلوجيا. أما الطامة الكبرى والمجزرة العظمى ونهاية الوطن هو ما سيجرى يوم الجمعة القادم 29/7 في ميدان التحرير، فقد أعلنت الجماعة الإسلامية والإخوان والسلفيون عن مليونية في التحرير للمطالبة بالاستقرار ورفض الوثائق فوق الدستورية، وهذا حقهم لا جدال في ذلك، والمعتصمون من الشباب ومن تستر خلف الشباب قد تعنتوا وبالغوا في إهدار الوطن وقد حان الوقت فعلا لكي يتركوا الميدان ولكني لن أطالبهم بذلك فقد أثبتوا أنهم أبعد ما يكون عن التعقل والحرص على مصلحة هذا الوطن لذلك فإني أناشد التيارات الإسلامية أن تلغي هذه المليونية لأن الصدام لا مناص منه إذا نزلتم الميدان وخاصة في وجود المحرضين المخربين الحريصين على الوقيعة والفتنة.. وهي معركة المنتصر فيها خاسر مهزوم، فدعوا لهم الميدان يرحمكم الله حرصا على الوطن وعلى الدماء الزكية التي ستراق إذا وقع الصدام، ولا يخدعنكم وعود من هنا أو هناك بعدم الاحتكاك لأن الوقيعة بين الطرفين من أسهل الأمور على الأطراف الخفية التي تسعى لهدم الدولة والوطن وخاصة في ظل الاحتقان والشحن والاستقطاب الذي مارسه الدهاقنة من السياسيين الكهول المغرضين، لا تبادلوهم حماقة بحماقة بل كونوا أنتم العقلاء الحريصين على البلاد والاستقرار ودعوهم يخسرون رصيدهم أمام الشعب الذي لا يعرفونه ولا يفهمونه ولا يشعرون به حقا. اللهم احفظ البلاد وأهد العباد وأصلح ذات البين وحسبنا الله ونعم الوكيل.