أن الاتصال الذي جاءني قبل عدة أيام كان غير تقليدي فهو وضع الكثير من الأمنيات التي كانت قد أدرجت ضمن (الديون المعدومة ) بالعرف المحاسبي قد انتعش الأمل بتحصيلها صفقة واحدة فقد كان الاتصال من صديق يطلب مني الانضمام إلى رحلة لأرض الكنانة فحزمت أمري وبدون تردد على السفر إلى أرض الكنانة ممنيا النفس برؤية هذا البلد الحبيب إلى قلبي بأهله وأرضه وخُلُقِه فهو قلعة حصينة طالما لاذ بها العرب والمسلمون وهي منبع للحضارة والمدنية والطيب وهي منجم للطاقات الخلاقة التي بنت الأهرامات والسد العالي وحفرت القناة وستحفر قناة أخرى وهي بلد طالما امتاز بها سحر عالم الشرق فتطاول على بقية العوالم . وكنت أعد الأيام والساعات حتى جاء موعد الطيران وكنت هناك في مقعدي بالكافتريا في مطار بغداد مبكراً انتظر صوت المضيفة التي تنادي على الرحلة وقد جاء ذلك الصوت بالوقت المحدد تماما معلنا عن قيام الرحلة وهكذا ركبنا بالطائرة وتوجهت بنا إلى هناك حيث كنا بميناء القاهرة الجوي الدولي ووطئت قدماي أرض النيل وبقينا بالمطار لفترة ساعتين وهو أمر يحز بالنفس ولكن من اجل أن أرى المحروسة سيهون كل شيء.. سارت بنا السيارة عبر شوارع يبدو أنها أنشأت حديثاً ما زالت بقايا المعدات موجودة والعمل ما زال مستمراً في انجاز المشاريع المتبقية وهو ما يدلل على حركة العمران فكانت النفس في أمنياتها متطلبة إلى حد بعيد فهي تريد أن تسابق العجلة التي تقلنا إلى مقرنا ، وفجأة وبدون سابق إنذار وجدت نفسي أمام بنايات كئيبة حزينة يعلوها الصدأ وجدرانها المتآكلة وقد اكتسبت ألوان النفايات التي تحيط بها بشكل مريع لم أتمالك نفسي حيث دخلت في عالم الصدمة ولا أعرف ماذا أقول وبقيت مذهولاً لفترة وبعدها طلبت من الدليل السياحي الذي يرافقنا أن يقترب مني وبالفعل لبى الرجل ندائي وكان على قدر كافٍ من الثقافة والإطلاع والخلق الرفيع وهمست بأذنه ....أين نحن ؟... قال في مصر ...هل نحن في المحروسة ....نعم وباتجاه القاهرة ....هل أنت متأكد ...نعم ....فقلت له هل هذه النفايات المتجمعة بشكل مخيف والبنايات البائسة وأحوال الناس الساكنين فيها الذي فاح منهم البؤس رغماً عنهم في قاهرة المعتز.....أجل يا سيدي..... وخاطبني بلهجة مصرية محببة إلى قلبي ( بص حضرتك دي اللي أنت شايفها كلها عشوائيات) .. ولكنها عمارات ابتسم الدليل ولكن هذه المرة بخبث وقال (ما هي صارت أمر واقع ) فسكت وبقيت صامتاً حزيناً لا أنبس ببنت شفه وفجأة مرت سيارة أمامي مكتوب عليها ( الحاج مؤمن المدلع واللي مش عاجبه يولع ) فضحكت قليلا وتأكدت بأني في مصر فخفة الدم المصري رغم كل شيء هي التي تطغى .... حتى وصولنا فندق الميناهاوس الذي شهد توقيع اتفاقية السلام بين السادات وبيغن وبعد أن استقر بنا المقام نظرت من باب الفندق فرأيت الهرم أمامي الأمر الذي بعث في نفسي بعض الارتياح وبعد أن قال مضيفنا غداً سنزور الأهرامات كان هذا النبأ بمثابة الماء الذي أطفأ الحريق في داخلي ....وعند الصباح يحمد القوم السرى. ففي الصباح كنّا هناك حيث يمكث خوفو منذ الاف السنين غير عابئ بعوامل التعرية الطبيعية والانقلابات السياسية وقانون الطوارئ فهو في عالمه الملكوتي ويطوف به الملايين من الناس منذ مئات القرون ولم يقف يوماً بالطابور الخاص بالجمعية للحصول على فراخ ولكن عيونه على أحفاده الذين أضناهم الفقر فهو يتساءل مع نفسه كيف وصلت بهم الحال إلى هذا المصير فهم لم يعودوا يعبأون بقدسية ضريحه وتناسوا إنه كان يحفظهم طوال قرون ..وهاهم اليوم يدنسون ضريحه المقدس بروث مواشيهم وصراخهم فهم نسوا ملوكهم الذين لا تأكلهم ديدان الأرض ...ترى هل نسي أبنائنا بأن أماكن قبورنا مقدسة لا تطأها أقدام مدنسة فهو يهذي بعبارات طوال مئات القرون ويستحيل هذيانه إلى رماد من الفقر يغطي رؤوس البشر المحيطين به ويحجب عنهم فيضان النيل الذي راح ينحسر عن ضفته الأصلية مخلفاً وراءه كثبان رملية تتناثر في ريح الخماسين كشرارة لتحرق ما تبقى من ذاكرة لهؤلاء القابعين في أهراماتهم ....... لقد كان الوضع العام في الهرم وأبي الهول كما كان يوم بناءه وقد يكون أسوء بكثير من تاريخ بناءه حيث اندثرت الكثير من المعالم حول هذا الهرم الأكبر وقد انحسر النيل عنه وبقيت الصحراء هي الوحيدة المحيطة به ، منعت اليونسكو من إضافة أية إنشاءات حول الأهرام خوفا من المياه الجوفية ,إضافة إلى مصيبته بأحفاده , بقي ضيوفه دون أية وسائل للراحة....ولكنها لم تمنع حالة إهمال النظافة فعند انتهائنا من زيارة الأهرامات ذهبنا إلى أبي الهول فلم يكن أحسن حالاُ من خوفو أو خفرع فقد تشاركوا الهم وربما أضاف إليه توبيخ خوفو له بإهمال واجبات الحراسة وترك الرعاع من شذاذ الآفاق من الغزاة تهاجم قبره بل وسرقته دون أي إجراء رادع ربما أضاف له همّا مضاعفا ، تجولنا بالمدينة المحيطة بها .....ويا لهول ما رأينا من حجم النفايات والإهمال الواضح والمتعمد لهذه الواجهة الحضارية حيث الخيل مربوطة بالشوارع ونفاياتها العضوية تغطي الشوارع والقناني الفارغة للمياه المعدنية وبقية الأزبال متجمعة على شكل أكوام عالية بشكل يثير التساؤلات ....هل أن (الحاج عبعبوب هو مدير بلدية محافظة الجيزة أم اقتنع المصريون بنظرية الصخرة العبعوبية في النفايات الحداثوية) -وللأخوة المصريين الذين لا يعرفون الحاج عبعبوب هو (أمين بغداد)- وراحوا يتبارون في تطبيقها ....وهل يعقل أن محافظ الجيزة أو مدير البلدية فيها لم يصادف أن زار الهرم ومرَّ بمحيطها البائس أو اجتاز معرض صناعة العطور أو زار معرض الصناعات القطنية ...لا يمكن أن يكون هناك أمين بلدي أو أي مسؤول عن النظافة وإلا لكان الموت أفضل له فغياب عامل النظافة كان شيئا ملفتاً للنظر وأكوام النفايات كانت تستغيث للمسؤول عنها فعند تجوالي بمحافظة الجيزة والتي تحتوي بين طياتها رمز حضارة وادي النيل التي أذهلت الدنيا على مر العصور بجمالها وأسرارها وتفردها ....لم يكن الورثة بمستوى هذه الحضارة ويجب علينا إعادة تقييم العنصر الموجود في هذه المحافظة وإجراء فحص ل (D.N.A ) ففي الأغلب سيظهر الفحص بأن قسماً كبيراً منهم جاء مع الاحتلال الإسلامي لهذه الأرض وجذورهم تعود إلى جزيرة العرب فعلى القائمين على إدارة ملفات الهجرة إلغاء إقامة هؤلاء الأعراب وإسقاط الجنسية عنهم وإعادتهم إلى جزيرتهم العربية الموبؤة بأنواع التخلف وإحلال العنصر المصري الأصيل من امتداد هؤلاء بناة الأهرامات والسد العالي وقناة السويس ليرعوا قبور أجدادهم ومعابدهم وتراثهم الذي أذهل الدنيا ولتكون مصر بحق أم الدنيا وأني أرى إذا بقي الحال على ما هو عليه الآن فأن الأهرامات ستطمر تحت أكداس القمامة بدلا من التراب الذي عجز عن تغطيتها لقرون طويلة نظراً للأسلوب المعماري الفريد الذي تم تصميم الأهرامات عليه..... والشعب المصري لا يسمح بأن يدفن هو وحضارته تحت أكداس النفايات....فمنطقة الجيزة أفضل بكثير من (شرم الشيخ والغردقة) فهي الوجه الأصيل لمصر فهل سيتم إصدار الحكم في شكوى الهرم الأكبر وأبو الهول وتتخذ الإجراءات الكفيلة لإعادة الأمور إلى نصابها أم ستقيد ضد مجهول ؟؟؟؟؟؟