قبل تنحى الرئيس مبارك بساعات ذهبت إلى ميدان التحرير ، وحتى هذه اللحظة – وأكيد بعدها - لا أتخيل ما يحدث حولى ..فأنا مازلت مصراً على أننى فى حلم طويل أحداثه تأتى جميلة ومنيرة أحيانا وكابوسية المشهد ودموية الصورة فى أحيان أخرى . والسبب فى ذلك هو الخوف والجبن الذى تربى عليه الكثيرون واستيقظوا فجاة يوم 25 يناير على شباب شعب ظن الجميع ألا أمل فى استيقاظه مرة أخرى فى ظل هذه الأحداث كان على أن أتوجه إلى ساحة الميدان لأول مرة والحقيقة هو أحساس وشعور مختلف ذلك الذى خالجنى وأنا تطأ قدماى أرض المعركة أو أرض الثوارأتلفت حولى ويدق قلبى ولأول مرة أجد نفسى أمام دبابة حقيقية بل رتل من الدبابات والمدرعات يالهول المشهد .. أهذا هو ميدان التحرير؟ أخذت أتقدم وأطالع مشاهد الحريق والدمار حتى وصلت إلى طابور التفتيش والاطلاع على بطاقة تحقيق الشخصية خوفا من تسرب أسلحة أو شخصيات غير مرغوبة على رأسهم أى أحد من رجال الأمن ، مجموعتان من الشباب يقابلون الضيوف أمثالى الزائرين.. لأول مرة شباب وفتيات وأطفال وأمهات عائلات بكاملها ثم مررت متجها إلى ساحة الميدان وللوهلة الأولى لاحت أمامى صورة عظيمة قد لا تتكرر إلا عدة أجيال إنها لحظة كتابة التاريخ وطى صفحة بل صفحات قديمة وتفتح صفحات بيضاء خطت بدماء الشهداء وجروحهم أنظر فى الوجوه شباب متحمس يهتف بعنف وقوة وفتيات يحملن الأعلام ويلوحن بها وفوق الأكتاف شاب لم يتجاوز ال 16 عاماً محمولا على الأكتاف وهو يردد بهتافات أرحل أرحل والتف حوله نحو ألف شاب وفتاه ومعطم الموجودين يرفعون كاميرات موبيلاتهم لتصوير لحظة التحول التاريخى الشعبى .. مرت ثلث ساعة وأنا أهتف مع الثوار بكل هتافاتهم الحماسية منها والفكاهية فى بعضها حتى خرج أحد الشباب وهو يصرخ "يا جماعة وحدوا الشعارات لا داعى للتجاوز فهو أصبح مولد وليس ثورة بهذا الشكل فاعترضوا عليه واستمروا فى هتافاتهم " دلعوا يا دلعوا ومبارك شعبه خلعو" ثم بدأت تنطلق الأغانى الوطنية من السماعات الضخمة التى وضعت فوق مسرح صغير ومع كل أغنية تهز المشاعر بشكل مؤثر والكثيرون لا يتمالكون دموعهم وهم يرددون " صورة صورة كلنا كدة عايزين صورة" أو بسم الله بسم الله الله أكبر" وتشعر وكأنك تقف بقدميك فوق أرض كانت محتلة واستطاع الشباب تحريرها خصوصاً بعد أن صعد المنصة رجل كبير السن قال أنه جاء من بورسعيد للمشاركة فى هذه الثورة كما شارك من قبل فى حرب اكتوبر 73 ، وأعقبت الكلمة صعود الكاتبة فتحية العسال طالبت فيها الشباب بالصمود للحصول على الحق والحرية التى فشل فيها جيلها بل تعرضوا للاعتقال عدة مرات مرة اخرى أخذت انسحب لأتقدم وأشق الصفوف لألتحق بتكتل شبابى آخر فأجد طفلاً لم يتجاوز العاشرة محمولاً فوق الأعناق وهو يردد هتافات وشعارات الثورة كما لو كان مولوداً فى مظاهرة ، إصراره وقوته دفعت الجميع لتسليط عدسات الكاميرات نحوه وهم يرددون وراءه الهتافات .. مرة أخرى أجلس على أحد الأرصفة لألتقط الأنفاس وأتعجب من هؤلاء الشباب وقدرتهم على قهر فلول الأمن القامع لهم واستمرار تظاهرهم، ولكن ما لفت نظرى هو التحول الواضح فى رواد الميدان فقد أصبح أشبه بمهرجان او معرض ..فباعة الأطعمة والعصائر والأعلام يشيعون جوا يبتعد عن الأيام الأولى للمظاهرات حتى أصبح الهدف التقاط صورة وسط المظاهرات أو بجوار دبابة ، المهم أنى تمنيت لو تم تخصيص ميدان التحرير فعلاً ليصبح ساحة انتظار رسمية أو على الأقل إقامة متحف متخصص يجمع ويؤرخ لثورة كانت نقطة تحول لعصر كامل فى تاريخ مصر كان شعاره من البداية " تغيير .. حرية .. عدالة اجتماعية"