اليوم تحتفل مصر بعيد الشرطة الذى يوافق يوم الخامس والعشرين من يناير من كل عام ، وهو ذكرى معركة الإسماعيلية المجيدة التى أثبتت - ولا تزال - أن شجاعة الإنسان المصرى وبسالته ليس لها نظير وهو يدافع عن حرية بلاده ضد المعتدين . بدأت هذه المعركة فى إطار تصفية الحسابات بين الإنجليز و الحكومة الوفدية بعد أن أعلن الوفد إلغاء معاهدة 1936 فى أكتوبر من عام 1951 ، تلك المعاهدة التى كانت تحكم العلاقة بين البلدين وتضمن شرعية وجود بريطانيا على أرض القناة بحجة الدفاع عنها ولكن بعد هذا القرار الجرىء الذى أعلنه النحاس باشا بنفسه أصبح الوجود البريطانى فى منطقة القناة لا أساس قانوني له ، ومن هنا بدأت معركة الفدائيين فى السويسوالإسماعيلية ضد الاحتلال واستمرت المناوشات طويلا حيث سقط فيها الكثير من الأبرياء المصريين وبات الصراع محتدماً بين الإنجليز والوفد ، ومن هنا فكروا فى أكثر من حيلة لدفع الملك فاروق لإقالة هذه الوزارة خاصة بعدما أعلن الوفد أيضا عن استعداده لقطع العلاقات الدبلوماسية تماما بين البلدين حيث كان يعد هذا القرار بمثابة إعلان حرب ، وتكشف الوثائق البريطانية أنه إذا ما كان سيتم تنفيذ هذا القرار فإن بريطانيا كانت ستقوم بإلقاء القبض على الملك فاروق واعتباره أسير حرب ، ثم كان الطرف الثانى فى هذه المؤامرة وهو خلق معركة الإسماعيلية لعمل حالة من الإضطرابات حتى يتضح أمام الشعب وأمام الملك أن الوفد تسبب فى ضياع البلاد والدليل احتلال الإسماعيلية . وتحركت قوة من الجيش البريطانى فى منتصف ليل الجمعة الموافق 25 يناير لاحتلال مبنى دار محافظة الإسماعيلية وإخلاءها من السلاح وتجريد قوات الشرطة بها من أسلحتهم وحملهم على الرحيل على قطار خاص ليقلهم إلى القاهرة.. وبدأت معركة الإسماعيلية ، كان عدد الجنود البريطانيين الذين اشتركوا فى هذه الجريمة التى هزت مشاعر العالم نحو ألف وخمسمائة جندى - وقيل فى بعض كتب التاريخ 7 آلاف - من جنود المظلات والمشاه مع عدد من الدبابات والمدرعات والمصفحات الثقيلة والجرارات المدججة بالمدافع ، أى أن هناك جيشاً تحرك بهذا العتاد لملاقاة نحو 800 شرطى مصرى من جنود البوليس ليس فى أيديهم سوى البنادق التقليدية .. كان الصراع غير متكافىء بين قوة غاصبة معتدية وقوة لا تملك سوى العقيدة والإيمان بحرية الأوطان ، وبعد فجر الخامس والعشرين من يناير تحرك هذا الجيش الكبير واحتل المنطقة المحيطة بمبنى دار المحافظة وأحكم حصاره على المنطقة لدرجة أنه احتل أسطح العمارات والشوارع المحيطة بها .. وكان من بجاحة الإنجليز أنهم أرسلوا إنذارا لقوات البوليس المحاصرين داخل مبنى المحافظة طالبوهم فيه بالرحيل عن المبنى حتى يحتله الإنجليز بقيادة الجنرال أرسكين الذى كشر عن أنيابه وهدد بهدم المبنى على من فيه ، لكن اللواء أحمد رائف بك قائد البوليس ومعه وكيل المحافظة رفضا التسليم أو الاستسلام وقرروا المقاومة .. لقد اختار هؤلاء الجنود الأحرار أن يموتوا فداءً للوطن أبطالاً فى الميدان دون الخضوع أو الركوع .. فى هذا الصباح الباكر لم يكن يتصور الإنجليز أن حيلهم ستفشل .. فكيف لأى قوة صغيرة أن تتحمل هذا القدر من الأسلحة والمدافع والدبابات وإزاء العناد المصرى الأصيل فقد أطلق الإنجليز أولى قذائف الغدر وحاول الجنود المصريون أن يدافعوا عن أنفسهم فى استماتة لكن دون جدوى ، وبدأت المجزرة وبدأ جنودنا يتساقطون واحدا تلو الآخر .. واستمرت المعركة طيلة ست ساعات متواصلة نفدت فيها ذخيرة الجنود المحاصرين وبقى أمامهم أن يتحملوا الطلقات والأعيرة النارية فى شهامة وشجاعة ونبل ، وإزاء تساقط الشهداء الشجعان استغل الإنجليز الموقف وأعلنوا عن استعاداهم للسماح لسيارات الاسعاف للدخول إذا ما أعلنوا الاستسلام ولكن دون جدوى .بل أن جنديا مصريا خرج تحت أعيرة النيران واقترب من الجنود الإنجليز والدماء تتساقط من وجهه ومن قدميه حيث قال لهم أن المقاومة مستمرة حتى النهاية وقد راح هذا الجندى ضحية شجاعته حيث فتح صدره أمام المدافع التى انطلقت فى غيظ لتهدم أجزاء كبيرة من مبنى دار المحافظة ليخلد عدد كبير من الشهداء تحت الركام .. واستمرت المعركة طويلاً إلى أن نفدت ذخيرة الجنود المصريين ووقتها اقتحم الإنجليز مبنى دار المحافظة واحتلوها ورفعوا العلم البريطانى عليها وأسروا من كان بها من الأحياء .. ولقد بلغ عدد الشهداء أكثر من 64 شهيدا وبلغ عدد الجرحى أكثر من 200 شرطى بينما قتل من الإنجليز نحو 15 جنديا وضابطا .. لقد دفعت هذه المعركة ضابطا بريطانيا ليقول أن المصريين علمونا درسا لا ينسى فى الشجاعة والاقدام ، وكان أول عمل قام به القائد البريطانى عندما اقتحمت قواته مبنى المحافظة أن قام بتقديم التحية للضباط والجنود المصريين والإشادة ببطولتهم.. وهكذا احتل الانجليز محافظة الإسماعيلية وعزلوها ومنعوا التجول فيها ومن ناحية أخرى فقد قام عدد كبير من الأهالى بالرحيل عن المدينة بعدما رأوا بأعينهم ما أسفرت عنه هذه المذبحة وكان الطرف الآخر من المؤامرة هو إحراق القاهرة فى اليوم التالى ونجحت بريطانيا فى إقالة الوفد ولكنها لم تنجح فى إقالة المصريين أو تنحيتهم عن المطالبة بحريتهم ، وبعد أشهر قليلة من هذا العدوان كانت ثورة يوليو المجيدة . ونظرا لما يتمتع به هذا اليوم من ذكرى عزيزة .. فقد تم اعتباره عيداً للشرطة المصرية ويوماً من أيام الوطن المجيدة ..