في البيت القديم يسري تيار من البهجة لا أعرف اسبابه .. ومنذ الأصيل تتوافد عليه سيدات العائلة فتستقبلهم أمي وأختي الكبري بالقبلات والأحضان , ثم لا تمضي دقائق حتي تعلو الضحكات وتعم البهجة المكان .. وفي المطبخ نشاط محموم لإعداد الشاي والقرفة والشربات , أما قمة البهجة بالنسبة لنا نحن الأطفال ففي هذه الأواني الضخمة التي يجري فيها إعداد كميات كبيرة من المهلبية والألماظية والأرز باللبن , والجميع يشاركن في العمل .. وهن يتضاحكن ويتبادلن الأحاديث البهيجة .. ثم يجتمع شملهن في الصالة الواسعة ويستمتعن بالحلوي والشراب , ثم تغني ذات صوت حسن نوعا غريبا من الغناء , يبدو لي كالحداء الذي يحدو به البدو جمالهم في الصحراء .. وألحظ للدهشة أنه يثير في نفسي الشجن أكثر مما يثير فيها الابتهاج .. ويعجز عقلي الصغير عن فهم معني اسم هذا النوع من الغناء الذي سمعته من أمي أكثر من مرة من قبل ولم أستوعبه , وهو " التحانين " , لكني أري أثره واضحا في عيون الجالسات وهي تترقرق بالدمع دون أن يفارق الوجوه الانشراح .. وأعجب لهذا الغناء الحزين الذي يستدر الدمع من العين .. كيف يكون وسيلة للاحتفال بمناسبة بهيجة , أو كيف تنفعل به إحدي الحاضرات فتطلق " زغرودة " طويلة تتجاوب معها الأخريات بالزغاريد والضحكات والدعوات الصالحات , والدمع مازال يترقرق في العيون؟ !.. وتدور أكواب الشربات والشاي والقرفة , وأطباق المهلبية والألماظية من جديد علي الحاضرات , ويمضي الوقت في بهجة خالصة بالرغم مما يحيط بالأجواء من ظلال الدموع , ثم نسمع طرقات علي الباب الخارجي للبيت , فيعم السكون فجأة أرجاء المكان وتختفي الضحكات والصيحات , ويدخل الدور الأرضي من البيت كوكبة من الرجال يتقدمهم رأس العائلة الشيخ الجليل وبينهم أبي والأعمام وأبناء العم وبقية رجال الأسرة . ويجتمع الجميع في صالون الدور الأرضي الذي نسميه في لغتنا " غرفة الجلوس " ويشهد السلم الصاعد الي الدور العلوي نشاطا كبيرا في الصعود والهبوط بين الدورين بأكواب الشاى والقرفة وأطباق الحلوى , ونتمتع نحن الأطفال بحرية التنقل بين مجلس النساء في الدور العلوي الذي ران عليه الهدوء والتحفظ وبين مجلس الرجال الذين يملأون مقاعد الصالون ويتبادلون الابتسامات والأحاديث الوقورة , وتتجه انظارهم دائما الي قطب المجلس الذي يتصدر المكان ويبدو أنه مصدر الاشعاع فيه .. وبعد احتساء الشاي والقرفة والاستمتاع بأكل المهلبية والأرز باللبن , يشهد المجلس فجأة نشاطا جديدا .. إذ ينهض الشيخ الجليل واقفا فينتفض الآخرون واقفين ويصنعون مايشبه الدائرة .. ثم يبدأ الشيخ الجليل في الترديد بصوت خافت ويرجع الآخرون ترديده بصوت عال .. ويعود الشجن الغامض إلي التسلل إلي نفسي بغير أن أدري له سببا .. وتلتقط الأذن عبارات منظومة موحية تتردد فيها كلمات : الله .. أحد .. حي .. أ كبر .. غفار .. ويستمر الترديد .. ثم تتشابك الأصوات في النهاية في ترديد جماعي شجي يوحي بقرب الختام , وينتهي بعبارة منغمة ذات إيحاء مميز : وصلي الله علي محمد .. صلي الله عليه وسلم . ويرجع الرجال إلي مقاعدهم منتشين .. وتهبط صواني الشاي والقرفة من جديد إلي الدور الأرضي , ويمضي الوقت في سمر لا يعي الفهم أكثره ! ثم يقف الشيخ الجليل ويقف معه الرجال مرة أخري وتتكرر العبارات الموحية , والترديد الشجي , والختام المبهج بنفس العبارة الجميلة .. وتتمني النفس أن يطول الوقت بالمجلس إلي مالا نهاية , لكن قانون الأشياء يفرض نفسه في النهاية .. ولاتلبث السيدات أن يبدأن في الانصراف من الدور العلوي .. ولايلبث الرجال أن يلحقوا بهن بعد قليل .. ويخلو البيت أخيرا من زواره , وتجتمع الأسرة في الدور العلوي , فأري بقايا الاحتفال الغامض في كل مكان .. وتمضي السنوات قبل أن أعرف أن أسرتي كانت في تلك الليلة ومثيلاتها من الليالي المشابهة تقيم احتفالها الخاص بذكري المولد النبوي الشريف ... وأن غناء " التحانين " الذي كانت تردده سيدات الأسرة فيثير الشجن الغامض في نفسي ويستدر الدموع , لم يكن إلا ترجمة عامية لما يمكن أن يسمي بغناء " الحنين " إلي زيارة بيت الله الحرام .. وقبر الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه ... ويتلقي الوجدان في وقت مبكر واحدة من أهم الإشارات الدينية الغامضة التي تستقر فيه وتسهم في تكوينه وتحديد مجراه فيما بعد . وأقرأ أيضاً : اللقاء الأخير ! الحكاية الأولى .. الانحناء ! الحكاية الثانية .. أيام السعادة !