هل جربت يوماً أن تعتمد حياتك كلها على الخيال فقط ، تأكل ما لا تراه .. ترتدى ملابس لا تعرف ألوانها .. تمشى فى شوارع لا تدرك معالمها، تلتقى بأشخاص لا توقن ملامحهم ..كلمات ربما يؤلمك صداها مثل " صورة .. مشهد .. رؤية "، الضى والنور والضياء والشمس والقمر والنهار والظلام .. كله سواء، كل هذا يحدث معك فجأة وأنت فى ريعان شبابك .. لكنك تقابله بحمد الله ورضا عجيب وأمل فى المستقبل بابتسامة صافية، وهذا هو سر عبقرية أحمد حرارة الذى كف بصره.. لكن قلبه يرى الصورة أوضح بكثير .ضاعت عيناه وسبقتاه إلى الجنة .. ونورهما ينتظره هناك، أمه قالت عنه: " أحمد كان شايلنى بعدما كبرت فى السن .. لكن تضحيته مش خسارة فى مصر "، كان يحلم منذ صغره بأن يصبح طبيباً ليداوى آلام الناس .. وحزنه الأشد لفقدان عينيه؛ لأنه لن يستطيع حتى مداواة نفسه ، ابتسامته تخفى وراءها الكثير .. فحتى لو ظل مبتسماً، هل تتخيلون شعوره عندما يسمع صراخ طفله الأول لحظة ميلاده وهو يتحسس وجها ولا يراه ؟! حرارة لا ينتظر عطفاً أو شفقة .. بل هو بطل ضحى ببصره لتسطع شمس الحرية والكرامة والعزة على المصريين، أحمد محمد على الشهير ب ( أحمد حرارة) ، من مواليد 12 فبراير 1980، طبيب أسنان تخرج عام 2010 ، آخر status كتبه حرارة بنفسه على صفحته الخاصة على الفيس بوك كانت قبل 4 أيام من ضياع عينه الثانية كان نصه : " مصابو الثورة معتصمون فى ميدان التحرير، انزلوا اتعرفوا عليهم، اسمعوا قصصهم، الثوار يحبون الحياة ولا يخشون الموت"، تبدو فى وجهه علامات من التواضع والبساطة، عندما تراه تحسب أنك تعرفه منذ زمنٍ طويل ، ملامحه تشبه معظم المصريين .. يرفض أن يكون هو أو غيره رمزاً للثورة.. الرمز الحقيقى هو ميدان التحرير . لن أعيش بعين مسكورة حرارة ليس الوحيد الذى فقد نعمة البصر خلال الثورة، فهناك من فقد حياته بأكملها، وقليلون هم من حظوا بالاهتمام الإعلامى والجماهيري، ونادر منهم من سكنوا القلوب والعقول، وحرارة أحد هؤلاء، وقبل الثورة كانت حياته رتيبة للغاية .. طبيب أسنان ناجح ووقته مقسم بين عيادته وسماع الموسيقى، لكن يوم 25 يناير 2011 تغيرت حياته تماماً، خرج مع الآلاف من شباب مصر ليطالب بأبسط حقوقه .. الحرية والعدالة الاجتماعية، وبدأ العالم كله يعرف اسمه عندما أصيب يوم "جمعة الغضب" ، أصاب الخرطوش وجهه وعنقه وصدره، اخترقت قرنية عينه اليمنى أربع شظايا، وأصابت واحدة عنقه، وسبب له الخرطوش نزيفا فى الرئة، حين نقل إلى المستشفى ظل فى غيبوبة طوال 3 أيام، ولم يستطع الأطباء إنقاذ عينه المصابة، فاستسلم لقدره، وغطى عينه بقطعة من الرصاص كتب عليها 28 يناير، وكما يقول: فإن أهله حبسوه فى البيت بعدما كف بصره فى العين المصابة، لكنهم رضوا بنزوله للميدان للاحتفال بيوم التنحى 11 فبراير، لم يكن يحتفل مثل غيره بسقوط النظام السابق .. بل خرج ليشعر بأن نور عينه لم يذهب هدراً، ومنذ وقتها لم يترك الميدان .. لم يعد هناك مجال للتراجع، هناك جزء عزيز من جسده يذكره دائماً بأن المشوار لابد أن يكتمل، وفى إحدى محطات الثورة المهمة .. وبالتحديد يوم 19 نوفمبر تلقى الصدمة الثانية، وأصيبت عينه اليسرى بطلق خرطوش لتظلم الدنيا أمامه، وبمجرد ضياع النور نهائياً من أمامه رفع يديه بالدعاء وقال :" يارب طهرنى .. فداك يا مصر "، قبلها كان شقيقه ينصحه بالتوقف عن التظاهر وكفى ضياع إحدى عينيه، فقال له: " أعيش أعمى بكرامة أفضل من العيش بصيراً، لكن بعين مكسورة "، وبخصوص علاجه قال: " قررت أن أتكفل بمصاريف علاجى حتى لا أحصل على مقابل لما قدمته لبلادى "، وقد فشلت جراحة كان قد أجراها فى فرنسا بسبب شدة الإصابات التى تعرض لها وصعوبة التدخل الجراحى، وبعدما تأكد تماماً من فقدان الأمل .. قال: " الحمد لله .. قدر الله وما شاء فعل " . بصيرة حرارة النور مكانه فى القلوب وليس العيون .. والبصيرة قبل البصر، وحرارة لديه أمل فى غد .. وهو لا يخشى الظلام .. فهو يرى خلاله بشكل أوضح، فهل تعرفون لماذا يبتسم الكفيف دائماً ؟ ببساطة .. لأنه يشاهد الدنيا على حقيقتها . بعد سنوات طويلة فى مراحل التعليم المختلفة وصل خلالها إلى درجة الماجستير فى الطب .. انقلبت حياته ووجد نفسه طالباً من جديد وهو يتعلم لغة " برايل " للمكفوفين ، كما أنه يواصل حالياً نضاله من خلال عضويته بحزب الدستور، و يشارك فى كل المظاهرات التى تطالب بتحقيق أهداف الثورة، وبعيداً عن كل شخص يستفيد من ورائه .. حرارة نفسه يؤكد أنه ليس ناشطاً سياسياً ولا يريد لعب دور سياسى لأنه أصلاً لا يفهم فى السياسة .. هو حالياً يتعلم فى مجال حقوق الإنسان وعمله الحزبى سيكون فى مجال التنمية فقط، صحيح أن بصره ذهب بلا عودة .. لكن صوته باق، وقد سأله مذيع منذ شهرين : عندما يفقد الإنسان فجأة نور عينيه .. ماذا يبقى له ؟ فرد عليه بابتسامة صافية : قدر الله وما شاء فعل .. الحمد لله، لا توجد حرية بلا ثمن، وغداً سأكون فى الميدان، فأنا كطبيب أعرف أنه لا يوجد أمل .. ولذلك لم أجلس فى المستشفى يوماً واحداً، وأنا حظى سعيد جداً لأننى أصبت عدة مرات لكننى مازلت على قيد الحياة، بينما هناك ثوار مع أول إصابة استشهدوا ، فأنا أقل مصرى ضحى فى الثورة، لم أتعرض للدهس أو التعذيب .. فأنا أقل الخاسرين الذين لم تسلط عليهم الأضواء .. وأى شهيد أفضل منى ألف مرة . وميدان التحرير بالنسبة له لم يعد مجرد مكان للتظاهر .. فهو يعتبره تجديدا للحياة وطاقة إيجابية ..علاجه هناك، كلما شعر باكتئاب ويأس يذهب إلى الميدان ليشم رائحة نور عينيه الذى ذهب .. ويتفاءل بمستقبل أفضل للمصريين، ومن غرائب القدر أن آخر مكان شاهده قبل أن يكف بصره تماماً كان ميدان التحرير، وشخص كهذا .. ماذا يفرق معه إذا اختارته مجلة التايم رجل العام على مستوى العالم ؟ فهو لا ينتظر تكريماً .. ولذلك عندما سألوه فى المجلة الأمريكية ما هو سر ابتسامتك الدائمة رغم كل ما حدث لك .. رد بالنص " Everything is in God's hands " أى " كل شيء بيد الله " .. هذا هو السر الذى لا يدركه سوى من يرى الدنيا على حقيقتها . وقد أعلن حرارة خطبته على المخرجة نوارة مراد منذ شهرين ، لكنه يرفض الإدلاء بأى تصريحات تتعلق بحياته الخاصة عبر وسائل الإعلام، موضحا أنه شخص عادى، وليس نجماً ، واحتراماً لرغبته لن نتكلم عن حياته الخاصة .. فقط نهديه كلمات الشاعر ناصر رشوان : فى كل شارع وفى كل حارة أهتف وأنادى مصر بجسارة وأقول يا بلدى يفديكى ولدى وعيونه فيكى ماهيش خسارة لو ضى عينى ما زارش عينى والدنيا نورها كله يجافينى انا ضيى روحى وضى قلبى مصرى واسمه أحمد حرارة وأخيراً .. نقول لكل شاب مصرى " عندما تغمض عينيك .. تذكر أن أحمد حرارة أغمضها للأبد لينير لك الطريق " .