عدد كبير من الشعرء المصريين لم يحققوا شهرة كبيرة وسط الناس العاديين وعاشوا معزولين بعيدا عن الأضواء رغم مكانتهم الأدبية المرموقة وشهرتهم الواسعة وسط طبقة المثقفين ، ثم تأتى مناسبة ما تجعلهم يطفون فجأة على سطح الحياة بعد أن كانوا منسيين .. وللأسف غالبا ما تكون هذه المناسبة هى ذكرى وفاتهم .. والكلام هذه المرة عن الشاعر محمد عفيفى مطر والمناسبة هى ذكرى الأربعين على وفاته . " عشت حياة بسيطة فى بيت بالطوب اللبن حيث بدأ الخيال يعمل وحيث بدأت أولى القصائد تنطلق ، وبين شقوقه المتسعة فى حوائطه لا تزال تحيا الحكايات والذكريات وتحت حوائط هذا البيت العتيق أيضا دفنت أمى خمسة من أخوتى ماتوا واحدا تلو الآخر فور ولادتهم ، وقد كانت أمى تحييهم كل ليلة فى حكاياتها معى قبل النوم وبجوار البيت ساقية كان أبى قد أصر على أن تكون لنا ساقية خاصة حتى نخرج من هذه المزاحمة مع قوم لا يحترمون العقل ! وهكذا تدفقت الساقية قرب البيت وقد جلبت لنا الخير الكثير وقبلت يدى أبى على هذا الجهد " ... فى هذا المناخ الريفى بقرية رملة الأنجب بمحافظة المنوفية وبهذه الكلمات البسيطة عبر الشاعر الراحل محمد عفيفى مطر عن نشأته فى فيلم تسجيلى كانت قناة النيل الثقافية قد أنتجته له قبل وفاته . هذا الفيلم تم عرضه فى بيت الشعر وسط حضور عدد كبير من الشعراء لأحياء ذكرى الأربعين للشاعر الراحل بحضور الشعراء الكبار فاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنة وأحمد عبد المعطى حجازى والدكتور عبد المنعم تليمة وعدد آخر من الشعراء الشباب .. كان عفيفى مطر فى هذه الإحتفالية حاضرا بروحه وقصائده وأشعاره وكلماته التى سجلها قبيل وفاته حيث واصل الحديث عن نفسه فى هذا الفيلم قائلا : ليس أعظم فى حياة البشر من العمل والكدح .. كنت أعمل مع أبى وأمى فى الحقل وسط الشجر وأعيش طفلا معزولا وسط الماشية والأغنام ولكنى رغم ذلك كنت مشغولا بالوجود والكلمات وبالفعل تفوقت فى دراستى رغم حياتى البسيطة ودرست الفلسفة فى كلية الآداب جامعة عين شمس ، وعندما تخرجت عملت مدرس إبتدائى فى مدرسة الشهيد رياض بإحدى قرى محافظة كفر الشيخ وكنت لا أتوقف عن مسامرة الأطفال حتى لا يناموا عن السؤال أو عن الدهشة أو التفكير ... ومنذ ذلك الوقت بدأت أكتب الشعر وبدأت أعتنى بتثقيف نفسى فوجدت أن الثقافة عبارة عن طبقات فوق بعضها ولابد من التدرج فى إتقان هذه الطبقات بمعنى واحدة واحدة وخطوة خطوة ومع الوقت قرأت كثيرا فى التراث الإنسانى ثم رأست تحرير مجلة سنابل الأدبية .. فى هذا الوقت كنت أقول لنفسى ما الذى أكتبه والشعر أمامى كتب مرصوصة فمن يقرأ كتبى ، نشأت فى جيل الستينيات وسافرت إلى باريس ورما وسويسرا وأسبانيا وحصلت على جوائز كثيرة منها جائزة الدكتور طه حسين وجائزة سلطان العويس وجائزة الدولة التشجيعية عام 1989 ثم جائزة الدولة التقديرية عام 2006 وها أنا الآن أعيش بين الهواء والماء والتراب والنار فالماء يعنى لى الإنفعال والحياة والحلم ، والتراب يعنى طينة الخليقة وجسد الرجال ، والهواء هو العشق الطائر وفضاء الإنتقال . توفى عفيفى مطر عن عمر يناهز 75 عاما عاش خلالها شاعرا غير جماهيرى لم يحظى بشهرة واسعة وإن كان قد تمتع بمكانة كبيرة بين شعراء جيله وكان معروفا عنه بأنه شاعر غامض ذو عالم خاص من الصعب الاقتراب منه كما كان شعره ملىء بالحزن والاغتراب العميق لارتباطه بالأرض والتراث الشعبى ومن أشهر دوواوينه "الجوع والقمر" ، "ويتحدث الطمى" ، "رباعية الفرح" ، "احتفالية المومياء المتوحشة" ، "كتاب الأرض والدم" ، "رسوم على قشرة الليل" . وفى آخر القصائد التى نشرها قبيل وفاته بشهرين كتب يقول : ما قبل الرحيل لى خيمة فى كل بادية ولى كهف ألوذ به ولى طلل وشاهد مدفن وهدير كلب حول نيران القرى وأنا المغنى جامع الأشعار من متردم الشعراء أروى ما رأيت لمن رأى وأنا ربيب الدمع كل أرامل الشهداء أماتى على وترين أسحب قوس أغنيتى وأضرب نقرة الإيقاع فى عظم الرباب وأنا يقين الرمل آخر نفخة للخلق والتكوين منفرد وباق ليس يغلبنى سواى . يقول الشاعر فاروق شوشة عنه : عفيفى مطر هو عالم من الشعر شديد الخصوصية .. هو الفلاح الذى تغوص قدماه فى القرية وعقله يحلق بعيدا فى عالم الإبداع ، فقد كان الريف ببساطة هو العالم الخاص للشاعر الراحل وعلى كل حال كلنا أبناء هذه القرى السوداء التى أنجبت محمود حسن إسماعيل وأحمد عبد المعطى حجازى وغيرهم وقد استطاع مطر أن يجمع بين الأسطورة والتاريخ والقرآن والفلسفة وقد تميز بقدرته على استدعاء الشعر فكأنه كان يدعو الشعر ..والشعر يستجيب له !! .