البيان الذى أصدره المجلس العسكرى أمس بما تضمنه من إشارات فهمها الكثيرون باعتبارها نهاية شهر العسل بينه وبين الإخوان المسلمين ، وهو أثار عاصفة من الجدل حول احتمال تكرار أزمة مارس عام 1954 والتى انتهت بانقلاب مجلس قيادة الثورة وقتها على الديمقراطية وعزل محمد نجيب وبقاء الجيش على رأس الحكم .. هذه الأزمة التاريخية يستعيرها الإخوان الآن من التاريخ لإشاعة الخوف من أن ينتهى الصراع العسكرى الإخوانى بانقضاض العسكر على السلطة مرة أخرى بعد حدوث فوضى وصراعات محتملة .. وإذا طبقنا ما جاء في بيان المجلس العسكرى أمس بضرورة الاستفادة من تجارب الماضى ، فهل لو عدنا إلى التاريخ سنعرف ما يحدث غدا من مفاجآت ونتجنب ما يحمله من سيناريوهات سوداء ؟ تعالوا نرى .. فى مارس من عام 1954 وقعت أزمة سياسية شهيرة كان سببها الصراع على السلطة بين مجلس قيادة الثورة والرئيس محمد نجيب وكان الإخوان طرفا فيها .. وفى مارس 2012 الجارى الحديث لا يتوقف عن بوادر أزمة مشابهة بين المجلس العسكرى والإخوان نتيجة إصرار الإخوان على تحدى المجلس العسكرى بالتهديد بسحب الثقة من حكومة الجنزورى تارة وبحصد عدد كبير من المقاعد فى اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور تارة أخرى ثم انتقاد المجلس العسكرى فى نواحى عديدة ثم الإعلان عن ترشيح إخوانى لانتخابات الرئاسة وبهذا يظهر الإخوان فى صورة الطامعين فى كل شىء فى البرلمان بمجلسيه وفى الجمعية التأسيسية للدستور وأخيرا مقعد الرئيس وهى إجراءات تبدو مختلفة عما كانت محيطة بأزمة مارس 54 لكنها تحمل تقريبا نفس طريقة التفكير .. هذا ما يكشفه لنا الدكتور عاصم الدسوقى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب، جامعة حلون حيث يقول: الإخوان فعلا لا يتعلمون من تجارب الماضى وحاليا هم يفكرون بطريقة تعبوية ويرغبون فى حصد كل شىء .. هم من سرقوا الثورة وليس غيرهم .. وفى أزمة مارس الأولى كانوا طرفا فيها .. ورغم وجود اختلافات بين المؤرخين حول هذه الأزمة إلا أننى سأروى وجهة نظرى كمؤرخ بشأنها لندرك الأسباب الدافعة وراء تذكر هذه الأزمة الآن خاصة وأن الظروف فعلا مشابهة .. فبعد نجاح حركة الجيش فى عزل الملك وإعلان الجمهورية والمضى قدما باتجاه العدالة الاجتماعية بعد تصفية الإقطاع كان أمام ضباط يوليو خياران: إما أن تحكم الثورة وتواصل مسيرتها حتى تتحقق أهدافها وإما ان تتنحى ويعود الجيش إلى ثكناته بعد أن يسلم إدارة البلاد لسلطة مدنية منتخبة . وانحاز أغلبية مجلس قيادة الثورة للخيار الأول وكان المبرر فى ذلك أن الديمقراطية تعنى عودة الأحزاب القديمة والتى كانت جزءا من النظام البائد وأن عودة الجيش إلى ثكانته يعنى العودة للمربع صفر وكان محمد نجيب منحازا لعودة الأحزاب وضد تصفية الإخوان وحل جماعتهم وكان على اتصال بهم لكنه بعد أشهر قليلة من توليه منصب رئاسة الجمهورية شعر أنه رئيس بلا سلطات وأن مجلس قيادة الثورة هو السلطة الحقيقية فى البلاد ولهذا بادر بتقديم استقالته فى 22 فبراير عام 1954 وقال فيها " السادة أعضاء مجلس قيادة الثورة بعد تقديم وافر الاحترام يحزننى أن أعلن لأسباب لا يمكننى أن أذكرها الآن أننى لا يمكننى أن أتحمل من الآن مسئوليتى فى الحكم بالصورة المناسبة التى ترتضيها المصالح القومية ولذلك فإننى أطلب قبول استقالتى من المهام التى أشغلها وإننى إذ أشكركم على تعاونكم معى أسأل الله القدير أن يوفقنا إلى خدمة بلدنا بروح التعاون والأخوة" ازمة الاخوان والمجلس العسكرى وتلقى مجلس قيادة الثورة بيان الاستقالة وبعدها بثلاثة أيام أصدر مجلس قيادة الثورة قراره بإقالة محمد نجيب وإعفاءه من مهام منصبه .. ولكن الجماهير الغاضبة شعرت بأنها شريكة فى القرار السياسى وخرجت المظاهرات من كل مكان تطالب بعودة نجيب وتهتف " إما الثورة وإما نجيب " وبعد ثلاثة أيام من الضغط الجماهيرى اضطر مجلس قيادة الثورة نزولا على إرادة الجماهير لعودة نجيب مرة أخرى وبدأ نجيب مشارواته لعودة الحياة الديمقراطية إلى البلاد مرة أخرى واجتمع مجلس قيادة الثورة وأصدر قرارات 5 مارس والتى نصت على السماح بعودة الأحزاب السياسية وانتخاب اللجنة التأسيسية للدستور الجديد وإعلان حل مجلس قيادة الثورة وعودة الجيش إلى ثكناته خلال ثلاثة أشهر كفترة إنتقالية .. لكن الجماهير التى خرجت من أجل عودة نجيب خرجت هذه المرة لرفض عودة الأحزاب بصورتها القديمة والتى تسببت فى إفساد الحياة السياسية وتسببت إرادة الجماهير والاضطرابات والقلاقل التى حدثت فى هذه الأثناء فى تجميد قرارات 5 مارس ويشتد الصدام ويواصل مجلس قيادة الثورة اجتماعاته حتى يتوصل فى نهاية المطاف إلى عزل محمد نجيب من مهام منصبه نهائيا. ازمة الاخوان والمجلس العسكرى ويضيف الدكتور عاصم الدسوقى أن الإخوان المسلمين لم ينسوا الدرس ويتعاملون بمنطق انتهازى وطريقتهم الحالية قادت البلاد لبوادر أزمة سياسية تعيد إلى الأزهان ما حدث فى مارس من صدام بين الثورة المضادة أو الحلف المضاد للثورة وبين ضباط يوليو وكان الحلف المضاد للثورة يضم محمد نجيب والإخوان وعناصر من الأحزاب الرجعية القديمة على رأسها الوفد وكان الإخوان على اتصال بمحمد نجيب وكانوا يسعون لمزيد من السلطات مثلما يحدث الآن كما كانت لهم صلات ببريطانيا وأنتونى أيدن نفسه اعترف فى مذكراته أنه كان يعتمد على الإخوان فى إثارة قلاقل سياسية حتى تلهى مجلس قيادة الثورة عن المفاوضات التى كانت بينه وبين بريطانيا لتوقيع إتفاقية الجلاء وعلى كل حال استطاع جمال عبد الناصر أن يتصرف فى الأمر بذكاء وحكمة واستجاب فى بادىء الأمر لضغوط الجماهير بعودة محمد نجيب كما صدرت قرارات 5 مارس للتحول الديمقراطى لكن الثورة المضادة تعجلت فكتبت بذلك شهادة وفاتها مبكرا.. وقد انتقمت ثورة 52 – أو القائمون عليها بشكل أدق - من الإخوان وأصدرت قرارا بحل الجماعة قبيل أزمة مارس وتحديدا فى 14 يناير 1954 ونسبت إليها اتهاما بالسعى للوصاية على الثورة وتجنيد رجالاً فى الجيش والشرطة واعتبر القرار أنها يجرى عليها ما جرى للأحزاب السياسية وهو القرار الذى صوت ضده محمد نجيب نفسه ووقع الصدام فى مارس لكن جمال عبد الناصر استطاع تحييدهم وأفرج عن قيادات الجماعة المعتقلين وفوت عليهم الفرصة إلى ان وقع حادث المنشية الشهير فتمت تصفية كوادر الجماعة .