منذ فوز نجيب محفوظ بنوبل ظل العرب ينتظرون لحظات أخرى تشابه تلك، تؤكد على أن الأدب العربى يستحق أن يُقرأ على نطاق عالمى، وأنه يمثل إضافة إلى سياق الرواية بتاريخها الغربى الطويل، إلا أن ذلك لم يحدث كما كان متوقعًا، والأعمال التى نجحت وحققت انتصارًا أو حازت جوائز فعلت هذا لنفسها ولصاحبها وعلى الأكثر للبلد الذى تنتمى إليه وليس لمجمل الأدب العربى، وكان علينا الانتظار ل31 عامًا كاملة قبل أن تأتى جوخة الحارثى بإنجاز محفوظى، حفيدته التى سارت على خطاه وإذا كان محفوظ قد حصل على نوبل للآداب لقدرته الفائقة على رصد أدق همسات مجتمعه فى الحارة والزقاق وصخب المدينة، فإن جوخة كذلك وعملها تميز ب«نظرة ثاقبة خيالية وغنية وشاعرية عن مجتمع يمر بمرحلة انتقالية، وبحياة كانت مخفية فى السابق»، بحسب بيان لجنة التحكيم فى حيثيات الفوز. هناك اختلافات بالطبع، لكنها ليست مهمة لتلك الدرجة، صحيح أنه لا يمكن مقارنة جائزة نوبل بال«مان بوكر»، كما أن محفوظ استحق الجائزة الرفيعة عن مجمل عمله، عن مسيرة طويلة، وجوخة فازت بجائزتها عن رواية واحدة، حتى المبلغ المالى لا يمكن مقارنته فى الحالتين، لكن مؤكد أن الأمر فى الحالتين يتعدى نطاق الأدب والرواية ليخرج إلى الجمهور العام ليثار حول الفوز أسئلة تنتمى إلى الشارع وقضاياه، حدث هذا مع محفوظ ويحدث مع جوخة غير أنه يمكن الادعاء أنه هنا أعمق وأكثر شمولًا وحساسية، مثلًا: هل نحن صادقون فى المطالبة بمنح الحرية للنساء؟ هل لدينا القدرة على تحمل حكى المرأة لو كان مختلفًا عن القوالب الموضوعة؟ هل تثور الهوامش لتحتل مركز الصدارة فى الأدب العربى باعتبار ما لديها من فرادة ومجتمعات لم يكشف عنها الستر بالكامل؟ والسؤال الأكثر ضرورة: هل فقدنا الثقة فى أنفسنا وثقافتنا بتاريخها وتراثها للدرجة التى نخجل بها من مفردات مثل الحجاب، والدين، والتقاليد المجتمعية؟ فازت جوخة الحارثى وروايتها بجائزة المان بوكر الدولية تحديدًا للأسباب التى أبدى البعض دهشتهم منها، لأنها لم تتنكر لأى من المفردات التى أثير الجدل حولها مع إعلان خبر الفوز: امرأة، محجبة، من الخليج، سلطنة عمان التى يجهل الكثيرون الحركة الأدبية فيها، مثلما يتعامون عن إنتاج الخليج بشكل عام، «سيدات القمر» الرواية الفائزة نفسها رغم أنها، وكما ذهبت آراء عدة، قدمت عالمًا مختلفًا عن الصور النمطية السائدة عن عمان والخليج ونساء العرب، لكنها مع هذا لم تغادر أرضها وثقافتها ولم ترفضهما على امتداد أجيال الرواية الثلاثة وإن كانت لم تدخر وسعًا فى تعرية أسرار هذا العالم وهو ما يمكن تبينه من خلال أصوات رافضة على مواقع التواصل الاجتماعى ترى بأن الرواية أساءت إلى بلدها، أو على الأقل أن سبب فوزها مرجعه أن الغرب يحب ويسعى لهذه النوعية من الأعمال التى تفضح المجتمعات، نظرة تؤكد أن النظرة إلى الفن فى عالمنا العربى مازالت قاصرة ومحاطة بالكثير من الجهل وأن المشكلة ليست فقط فى السلطات التى تصادر وتمنع بل أيضًا فيمن يدفعها إلى هذا. غير أن السؤال الذى لا يمكن تجاهله والمرتبط بالنقطة السابقة، هو أن معظم إن لم يكن كل ما ينتقيه الغرب من أعمال خارج مركزه لتحتل الصدارة ويتم الاحتفاء بها تقع فى تلك المنطقة الغامضة ما بين الأدب والواقع، وقراءة سريعة فى العناوين منذ نوبل محفوظ إلى الآن تؤكد هذا، مع تجاهل شبه تام للأعمال التى تتواصل مع مدارس فنية تنأى بنفسها عن الواقعى واليومى والاجتماعى، هذا سؤال لا يمكن المرور عليه عابرًا ولا الادعاء بعدم وجوده خوفًا من شبهة العداوة مع الأعمال الفائزة والشهيرة، وهو فى الوقت نفسه لا يقلل من قيمة تلك الأعمال وأحقيتها بالفوز، خاصة إن كان الجمهور الغربى جزءا من معادلة أوسع من مسألة الفن تتعلق بالنشر والتوزيع بل وإلى حد كبير ذائقة الجوائز نفسها. فى كل الأحوال فإن فوز جوخة الحارثى بجائزة المان بوكر الدولية ليس مجرد حدث عادى، الخليج عالم محاط بالأسرار، والمرأة فى القلب من تلك الأسرار، وكما أن للخليج ثقافته الخاصة فإن وضع المرأة فيه أيضًا لا يماثل وضعها فى أى دولة عربية أخرى، ولا بد من كثير من الحذر عند التعميم بكلمات مثل القمع والسلطوية والذكورية، على الأغلب هذه نظرة لم تقرأ الخليج على أى مستوى، ثقافى كان أو اجتماعى، المرأة الخليجية على العكس مما يبدو عليه الأمر لها وضع شديد التركيب عن أى دولة عربية أخرى، وضع لا يمكن الوصول إلى جوهره إلا من خلال رواية مثل «سيدات القمر». ينتبه الغرب إذًا هذه المرة إلى حكى نساء العرب وبالتحديد الخليجيات، يحتفى بسرد واحدة منهن، تأخذه من يده إلى باب الخيمة المليئة بالسحر والدسائس وبعض الحب، سيظل لهذه الخلطة بريقًا لن يخبو، تؤكد عليه جوخة الحارثى بحجابها الأنيق، والأنيق هنا لا يصف شكلًا بقدر ما يعنى القدرة على التعامل مع ثقافتين على طرفى نقيض، أن تكون همزة الوصل بينهما، الجسر اللطيف الذى يتم عبره تبادل الآراء والخبرات والابتسامات، الدور نفسه الذى قام به محفوظ من قبل عندما كشف للغرب برهافة عن الحياة الإنسانية الكامنة فى الزقاق والحارة بعد أن كانت قبلًا صورة للجهل والتخلف. من المفترض أن فوز «سيدات القمر» بال «مان بوكر» عمل من أعمال الثقافة، وهو بالتأكيد يمثل انتصارًا للرواية العربية، لكن مع هذا، على الأغلب لن يحدث بسببه رواج لها، والتوقعات المتفائلة المصاحبة الآن للحدث والتى ساد مثلها أيضًا مع فوز محفوظ، ستتلاشى للأسف سريعًا لصالح أعمال تسعى لتقليد منهج العمل الفائز لأغراض تجارية. لن يكون فوز جوخة انتصارًا للأدب لأن الساحة العربية ستنشغل، وقد بدأت بهذا بالفعل، فى الصراع. نحن فى العادة نفضل الصراع مع أنفسنا على استثمار النجاح، أضعنا فرصة محفوظ ولن نتوانى عن إضاعة فرصة جوخة. ربما لو خلعت جوخة الحجاب الذى يلمزها به بعضهم، أو لو لم تكن ممن يعتبرونه «الهامش»، أو لو كانت رجلًا، لاكتمل فوز جوخة فى تصور المهووسين بالتصنيف، لكن حتى لو تحقق كل هذا لن نعدم أسبابًا ووسائل كى لا ننتقل من خانة الاحتفاء أو سؤال التشكيك إلى خانة الدرس والنقاش لبحث جاد عما هو أكثر حيوية وأهمية، عن سرد لا نعرفه، عن مركزية الترجمة التى أصبحت تتولى اختيار الصورة التى تقدمها عنا لأننا لا نريد أن نقدم أنفسنا، ننتظر أن يرانا الآخر ويقول لنا هذا أنتم. فوز «سيدات القمر» عمل سياسى واجتماعى بقدر ما هو ثقافى، مثلما كان فوز نجيب محفوظ قبل 31 عامًا، انتصار مدو يفجر عشرات الأسئلة حول الثقافة العربية الغنية التى نخجل منها لأنها ترتدى الحجاب وتأتى من الهامش وتحكيها النساء.