نحن لا نملك دروبًا خاصة بنا، فكيف لا أحلم بأن أبحث حتي أجد جذوري؟ فالتقاليد السامية تحول مسار الروح الأدبية ومثل هذه الثقافة القادمة من أعماق السنين تكون بمثابة سحر روحي. وعند دخول قرن جديد، دخلت ثورة النصوص النثرية مرحلة جديدة، وواصل النثر الجديد والنثر الثقافي في القرن الماضي اكتماله ونضج أنماطه، حيث ظهر النثر الإيكولوجي الجديد والمقالات الحية، وقد اقترحت هذه القوالب النثرية الجديدة مطالب نثرية خاصة، وكان لكل نمط إدراكه الخاص من الموضوع حتي الأسلوب. وهذا يعد تجسيدًا لأشكال نثرية لا يمكن تجاهلها، وتجسيداً جوهرياً لنمط مستقل ينطوي علي معان أدبية. وأنا أري أن النثر هو نوع من التعبير الفني يعتمد علي المشاعر الشخصية والأحاسيس والتصورات، فيجسد مشاعر الكاتب وينقلها إلي أحداث النص، مما يجعل النص ينبض بالحياة والحيوية. وتكون وجهة النظر التي تتبناها وجهة نظر شخصية وليست وجهة نظر عامة، فلطالما كانت الأشياء العامة هي العدو الأبدي للأدب، وترتبط وجهة النظر هذه بالروح. فالنثر الجيد لا يحمل بين طياته روحًا فردية، ولا يمكن أن يكون نوعًا من الإبداع حتي وإن كان وهميًا. النثر هو امتداد للحياة.. روح تنبض.. روح تتنفس ولا يمكن نسخها مرة أخري. يكمن تفوق النثر في تميز موضوعاته. فالسعي وراء الشاعرية التي تنتهجها الحضارة الصينية في تعاملاتها مع الطبيعة، جعلت الإنسان يصل مع الطبيعة إلي درجة عالية من التوافق والانسجام. ومثل هذا المطلب الثقافي جعل الفن أثناء تجسيد عالم الطبيعة، يسعي تلقائيًا إلي البحث عن التصوير الشعري. وقد نشأ نثر الأجيال السابقة بنفس هذا القدر من الاهتمام. وهذه هي تعاليم النثر تهدف إلي بلوغ الجماليات عند الالتقاء الشعري بين الإنسان والطبيعة. ودعوني أتحدث عن أهدافي الخمسة من وراء كتاباتي للنثر: الأول، تجربة حياة فردية محدودة ووجود لا متناه لنشر الوعي القوي بالحياة الفردية، الثاني، التأكيد علي مسرح الحدث والتعبير عما يعتمل داخل الجسد، حتي وإن كانت الكتابة عن التاريخ، فلا ينبغي أن تأتي عبر الكتب، بل نستحضر الأحداث من الوجود الواقعي، حتي لو كان مجرد مشهد، فينبغي وجود دليل علي الزمان والمكان، ويكون نقطة انطلاق يلتقي بها الزمان والمكان. الثالث، بسبب قصر الحياة الواقعية التي نعيشها، فيكون هناك إحساس قوي بالزمان والمكان وفتح نوافذ التاريخ والتفاعل الإيجابي مع الأحداث التاريخية، وهذا التاريخ لا يكون سجلات مدونة ولم يعد معرفة مكتسبة، بل هي تجربة أعمق من الحياة مثل فتح بئر عميقة في الحياة الواقعية، الرابع، الاهتمام في طرق التعبير بالأسلوب ذات الطابع الشرقي في الصياغة بحيث يكون النص رشيقًا مثل أنفاس منتظمة، مثل مشاعر تفور وتمور داخل النفس البشرية، مثل الحقيقة وهي تقف أمامك عارية، الخامس، النص هو عيش التجربة والاقتراب منها إلي أقصي درجة لذلك يكون التميز والتفرد هو مطلب حتمي والشخصية هي غاية طبيعية. ويمكن أن يطلق علي هذا النوع من النثر »النثر في تجربة جديدة». فقد اعتدت رؤية الأشياء من حولي بعين الموت، وهذا جعلني أستوعب الأمور علي نحو كبير ورأيت معاني الحياة جليًا. وكان الفيلسوف الصيني الشهير »تشوانغ زي» هذا الرجل، فكل ما فعله يدل علي عقل رجل مستنير، فقد أهدي أغنيات لزوجته المتوفاة ووصف فلسفته في العيش بحرية دون قيود وفلسفة حلم الفراشات الذي وضعه للاتصال بين الموت والحياة، فكان كل ما فعله تمردا كبيرا علي الموت. فكان إدراك الموت يوقظ الوعي بالحياة. وإذا وضعنا الوعي بالحياة مع درجة الحرارة في مقارنة، سنجد أن كل ما كتبته من مقالات ينحسر في درجات حرارة متجمدة، وكأن كل رمز قطعة من الجليد. فكل الصور التي أقدمها عن العالم صور قصيرة ولحظية ومتغيرة وتحمل بصمات قوية للزمن. أكتب عن التاريخ لأنني أحس أنفاسه، فهو يمر عبر الأزمنة والأمكنة في حياتي. فمن خلال الثقافة التاريخية وجدت العلاقة بين الماضي والحاضر، وتواصلت مع هذه الأشياء التي لم يتسن لنا رؤيتها.. فشعرت بأنفاس الماضي وأنا أرغب في تجسيد هذه الأنفاس الزائفة وأعيد صياغة هذا الوجود المنسي.. وكان أكثر ما أعبأ به هو عمق الإحساس بالوقت الذي تبرزه هذه العملية من الكتابة التصويرية. وربما يكون هذا مظهراً من مظاهر الحياة، مثل شخص قد تجاوز سنين الجهل، مثل شخص يتسلق حتي يصل إلي مكان أعلي في الحياة، ولم يعد ينظر تحت قدميه بل يرتفع بصره إلي أعلي، فلم يعد يري فقط الحقيقة الحية أمامه، بل تتلاشي أمامه المسافات، تلك المسافات التي كان يظن في الماضي أنها بعيدة.. بعيدة جدًا. الثقافة التي ترتبط بالحياة الفردية هي وحدها الثقافة التي تبقي حية، لكن الثقافات التي تحيا في الأرواح هي وحدها التي أستطيع أن أدركها، وخلاف ذلك يكون مجرد معرفة.. معرفة ثقافية مجردة من الأحاسيس، وهذا النوع يعتبر نشراً للمعرفة، ويكون بمنأي عن الكتابة الإبداعية الروحية. لذلك كتاباتي التاريخية متقطعة وتعد لمحات سريعة ودائمًا تتبع الإرادة الروحية، أو الشعور بالأزمنة والأمكنة أو الرموز، فكل ما أتوق إلي التعبير عنه هو التاريخ الروحي.. مشاهد مفقودة وسط الحياة. وأشك أنني أبغض عصر التفوق المادي والاستهلاكي.. ودائمًا ما أستخدم العمارة التقليدية لتحديد شكل الفناء والسقف المنحدر.. ولتكوين دفء المشاعر الإنسانية والتعبير عن التعاطف الإنساني، فأنا ضد تصميم بنايات عالية في مدينة تقمع أهلها. وأري أنها تضع في الاعتبار محل سكن الجسد دون الالتفات لراحة العقل. والشيء نفسه ينطبق علي الثقافة الصينية التقليدية، فكل ما وضعته من قيم البر بالوالدين والغفران والخير والإحسان والآداب العامة.. قد عجزنا عن التواصل معه، أو بمعني آخر ليس لدينا درب خاص بنا نمضي عليه، فكيف لا أتوق إلي العثور علي جذوري؟ فالتقاليد السامية تحول مسار الروح الأدبية وهذه الثقافة القادمة من أعماق السنين هي بمثابة سحر روحي. كتابة النثر مثل كتابة الشعر كانت بمحض الصدفة، فقد كتبت بعض المقالات والتي لم أكن أعرف أن هذا هو النثر، وحينها أدركت أنها نصوص زاخرة بالمشاعر والأحاسيس، فما أؤمن به هو أن الفن لا يمكن أن يخلو من المشاعر.. ولأنني أحب السفر والتجوال، وأحب أن أشعر ببعض الأحاسيس علي الطريق مثل الوحدة والغربة والتيه والحنين والاشتياق.. ووسط حياة الرحالة أشعر بوجودي، أشعر بحيوية وشغف الحياة.. أشعر بجمال الحياة الذي لا يضاهيه جمال. هذه هي الحالة الحقيقية للحياة، فأنا أرغب في تلك الحياة التي تطوف غيبوبة بالروح ولا تستفيق منها علي الإطلاق. حتي وأنا أحيا في المدينة كانت الروح تصول وتجول في كل نحو من الأنحاء، فمن الصعب أن تسكن أو تنعم بهدوء رتيب، حتي صارت الكتابة ضرورة ملحة، مطلباً ضرورياً للمشاعر والروح. ومن ثم بدون المشاعر المكنونة وبدون الإدراك الروحي وبدون الأحاسيس الجدية أعجز عن الكتابة، فجميع كتاباتي تعتمد علي الإلهام فأنا لا أستطيع أن أرغم نفسي علي الكتابة من أجل الترفيه. أنا أكتب في البداية من أجلي.. من أجلي أنا، فوسط المشاعر المتدفقة أشعر بسعادة لا توصف.. أحس بالامتلاء الداخلي تجعلني أنسي خواء الحياة وفراغ الكون. لذلك أنا لا أكثر من كتابة المقالات فبضعة مقالات في العام الواحد، وعلي الرغم من صدور عدة نسخ منها بعد النشر الأول، إلا أنني دائماً لا أشعر أنها قطعة رائعة ولا مثيل لها! وهذا ما جعلني أتأخر في نشر مجموعتي النثرية الأولي حتي الآن. فحينما احتشد الجموع في المسرح، لم أكن في عجالة للوصول إلي مكتب الاستقبال، فكنت أخشي أن أعز ما أمتلكه من كلمات يستقبله الجماهير ببرود مميت. الأدب ليس هو كل ما يحتاجه الناس. وحينما يقومون برحلة طويلة وشاقة وفي الوقت الذي يشعرون بالظمأ يتذكرون فقط أن يطفئوا عطشهم.. والأدب هو إبريق المياه.. هو غذاء الروح. فكل ما أتوق إليه هو صدي صوت التقاء الروح والعاطفة، وهذا الصوت كفيل ليحررني من شعور الوحدة الفطرية الذي ولدت به.