من منا لم تكن لديه أحلام يقظة وخيال يجمع نحو تغيير العالم.. الآن صار العلماء الذين يحلمون عند طفولتهم بإحداث تغيير ما في العالم يغير حياة الملايين عبر تحقيق أحلامهم.. بل حلم بعض هؤلاء أن يخترعوا اختراعا يغير حياة البشر مثل رغيف الخبز الذي أحدث ابتكاره تغييرا في تحول الإنسان من أكل الحيوان إلي صناعة الطعام، فأصبح التقاط الخضراوات والفواكه ليس مجردا للأكل في التو واللحظة، بل هناك صناعات غذائية ساعدت الإنسان علي خزن الطعام لفترات، بينما كان الخبز أداة لالتهامه أو لأكل باقي أصناف الطعام به، هؤلاء الأطفال حينما يصبحون علماء شباب يغيرون العالم وفق خيالهم. ما سبق هو سرد يأخذك معي إلي عالم آخر يدعوك لأن تفكر في العالم قبل ابتكار الخبز، وطبخ اللحم وطهو الطعام علي الموقد، إن الشغف بتغيير العالم تكشف أنه شغف لدي الأطفال أيضا بصورة أكبر مما لدي الكبار، لكننا الآن لا نكاد نلاحق المتغيرات المقارعة في العالم، هذه المتغيرات التي تغير كل شيء في حياتنا، حتي أصبح اليقين في حياتنا محل شك، فهذه المتغيرات تهز أشياء كثيرة ليس في حياة الإنسان بل حتي داخل النفس الإنسانية، من هنا فإن الدراسات المستقبلية في العالم الآن لا ترسم سيناريوهات وفق معطيات ممكنة في المستقبل، بل تذهب إلي تنميط المستقبل بحيث يقع الإنسان تحت سيطرة برمجيات الذكاء الاصطناعي التي تحدد له حياته، فهل ينجو الإنسان من هذه السيطرة المحكمة وهذه المتغيرات التي تجعل لدي الإنسان حالة من حالات اللايقين فيما يدور حوله، لدرجة قد يصبح معها ليس صيدا للآلة، بل إن الآلة لن تشاركه في حياته بل توجه حياته. من هنا نستطيع أن نفهم ما لا يستوعبه البعض، إن الهروب من المدن الذكية سيكون إلي الطبيعة الأولي حيث الصحراء وحيث البعد عن الهواتف الذكية التي تلاحق حياتك حتي في سرير نومك، والهروب من الطب الرقمي إلي الطب الطبيعي الذي يجعل جهاز المناعة لديك يتفاعل مع الجراثيم والبكتيريا، من الملابس الذكية التي تتأقلم مع جسدك ومع الطقس إلي الملابس البسيطة، هنا الإنسان يعود لكينونته الأولي إنسان يتفاعل مع الطبيعة وفق معطياتها لها، يهرب من الواقع الافتراضي إلي الواقع الفعلي. هذه المسامرة . كتبت علي عدة مراحل.. وكانت بدايته مقالات نشرتها وكنت أبحث فيها أو من خلالها إلي أين نحن ذاهبون في المستقبل؟ وأين نحن من المستقبل.؟ وكيف نشارك في المستقبل؟ فهل هذه التساؤلات خيالية كخيال الأطفال الجامح، أم أنها تساؤلات الواقع الحقيقي الذي يجب أن نبحث عنه، هنا استدرك عليك عزيزي القارئ في هذا الكتاب، إذ أري فلاسفة يعودون في العصر الرقمي إلي التساؤل حول غاية الحياة؟ وغاية الإنسان؟ والغاية من الاقتصاد؟ وغاية المجتمع؟ وغاية القيم؟ ليصبح السؤال الآن ما هي القيمة، وماهية القيم في العصر الرقمي؟ هل للعلم حدود؟ سؤال أصبح ليس له محل الآن السؤال الآن هو البحث عن العلم وغايته الآن، فإلي أين يأخذنا العلم؟ هنا هذه المسامرةً بين يديك »احلام اليقظة والمستقبل» إذ المستقبل أصبحت إشكالياته أكثر تعقيدا مما كنا نتصور من ذي قبل، والثقافة هنا هي هوية المجتمع التي تعبر عنه في كل مناحي الحياة من مأكل ومسكن وملبس وشعر وقصص وأساطير وروح تغلف كافة مناشط الحياة وتعمق من ثبات النفس الإنسانية، إلي درجة أن تهديد الفضاء الرقمي للذاكرة الإنسانية المتوارثة والنفس الإنسانية وثباتها، أصبح محل تساؤل، فتتسارع الدول إلي تسجيل تراثها الشفهي والموروث، فهل القصص والمرويات الموروثة كحكي الجدات للأطفال والأمثال والملابس التقليدية والأكلات الشعبية كالفول والفلافل لدي المصريين، هذا التسارع يعبر عن قلق حول الذات الثقافية، العلم هنا هو الذي يقود الإنسان نحو المستقبل، بعد أن كان الإنسان هو الذي يحقق بالعلم مستقبله، فهل يصبح الذكاء الاصطناعي هو الذي يقود الإنسان؟ وبالتالي تصبح الثقافة الإنسانية شيئا افتراضيا غير حقيقي، لذا فإن الإنسان يبحث عن روحه وثقافته في شوارعه فيحن للمدن القديمة، ويحن لارتداء الجلباب بدلا من البنطال والقميص، ويجلس علي المصطبة في القريه بدلا من المراكز التجارية المكيفة، لماذا يجد الإنسان راحته هناك؟ ولا يجد راحته في معطيات التكنولوجيا والرفاهية؟ هنا تبدو حاجة النفس لتكون مطمئنة هادئة إيقاعها يتواكب مع طبيعة الإنسانية، حياة غير متسارعة لا يطارد فيها الإنسان في كل لحظة، بل له حظ أن يدرك أنه يعيش كما كان يعيش الأسلاف، من هنا سنري تصاعدا لدي الأجيال الجديدة في رغبة لفهم الماضي، فالذاكرة الإنسانية تستدعي من الماضي الإنسان غير الرقمي. هنا أنا اعترف انتي ولدت عام 1966 في مطوبس بمحافظة كفر الشيخ حين ولدت كان عدد المنازل التي بها كهرباء محدودا جدا ولكن مع السبعينيات من القرن العشرين ادخلت الكهرباء لمعظم منازلها وانارت شوارعها، فأحدثت تغيرات عميقة في المجتمع، اولها كان التليفزيون في المقاهي، فكان تسلية الشباب وعرفوا السهر ليلا وكانت السيدات ينتظرن عودة الشباب ليحكوا لهن ما شاهدوه في التليفزيون وكان والدي الاستاذ محمد عزب ممن ادخلوا هذا الجهاز لمنازلهم وكنا نسكن الدور الارضي في منزلنا ووضعه علي دولاب مرتفع في اتجاه النافذة حتي يشاهد الجيران معنا ما يذاع، ولكن مع العام 1975 انتشر التليفزيون ولم تمر سنوات قليلة حتي كان الفيديو يغزو المقاهي لتجذب الشباب مرة اخري اليها بقوة فلم يكن في مطوبس سينما . شيد بها يوناني مصري سينما خارج قرية مطوبس في اربعينيات القرن العشرين اغلقت ابوابها مع الخمسينات وكنا حينما نريد مشاهدة فيلم في السينما نذهب الي دسوق في القطار خاصة في العيد ولكن هذا لم يكن يتم بسهولة اذ يجب عليك خوض نقاش مع الاب لتقنعه بما تريد، الفيديو جعل شباب المدينة مسبهلا امام الافلام التي تبث عبر الفيديو حتي ترك بعض الشباب والاطفال عملهم ودراستهم وتسمروا في المقاهي فما كانت إلا دعوات بأن الفيديو حرام لما يبثه من مشاهد خليعه وثار جدا واعتبر سيء الخلق من يجلس علي مقهي به فيديو حتي إذا تقدم أحدهم للزواج اخذ هذا بالحسبان، لكن بعض الاسر احضرت الفيديو اما لتعرض ما تراه علي اولادها او للوجاهة الاجتماعية، هكذا كان الامر، كسر هذا تطور تقني اخر لان مطوبس قريبة من البحر المتوسط احضر بعض شباب البلدة بعض الإريال المتحركة علي موتور من ايطاليا لالتقاط قنوات فضائية اوروبية او لبنانية او غيرها، ثم سرعان ما دخل الدش كل منزل في مطوبس . هذه التطورات التقنية احدثت متغيرات عميقة في منظومة القيم والعلاقات الاجتماعية، فبعد ان كان الشباب يوقر الكبار صار يتجرأ عليهم، ولما أذيعت مسرحية مدرسة المشاغبين مرات ومرات خلال فترة حظر التجول في أحداث 17 و 18 يناير 1977 تجرأ التلاميذ علي المعلمين بعد ان كنا نخاف ونهاب هذا المدرس، حتي وصل الامر بالسخرية منه، اطباق الدش ازالت الحميمية في العلاقات الاجتماعية فبعد ان كانت الاسر تتواصل وتتزاور والاطفال يلعبون ويلهون سويا خطفتهم القنوات الفضائية، ماهو الفرق بين مطوبس قبل وبعد التليفزيون؟ الفرق بين مجتمع يري الاقتراب تعاضدا ومحبة ومجتمع التسلية فيه شاشة زرعت نوعا من التنافس في الاستهلاك والتفاخربما يقتني من سلع، بينما قبل اعلانات التليفزيون كانت كل البيوت متشابهه الكنب البلدي للجلوس وابور الجاز للطبخ، الملابس الجلباب البلدي للجميع والبنطال والقميص للموظفين، في الصيف الاطفال اما في كتاب الشيخ المسماري أو الشيخ الشوا حيث تخرج القاريء الدكتور أحمد نعينع وحفظت القران، الآن الكتاب تراجع وتواري، مطوبس تغيرت صارت بلدا استهلاكية بقوة، كانت امهاتنا تخبز الخبز في الفرن البلدي بالمنزل بأنواعه المتعددة، وفي كل موسم فاكهة تصنع المربي في المنزل،كم مرة احضرت اللارنج لأمي آمال السايس لصناعة مربي لارنج متعددة الانواع والمذاق حتي اني احس ان مذاقها الي اليوم في فمي وكنا كأطفال نراقب ذلك بشغف، وكذلك الحال مع موسم الجوافة، واذا صعدت سطح كل منزل رأيت الدجاج والبط والاوز يربي حتي ان بعض الاسر كانت تعتبر بيع الدواجن مصدر دخلها، هذا كله افسدته ثقافة فاسدة رأت ربة المنزل سيدة غير عاملة، في الوقت الذي كانت فيه امهاتنا منتجات فيعود العصر الرقمي الي الاسر المنتجة وتدعو الي المشروعات الصغيرة، لم تخلد ربة المنزل المنتجة التي سترت بيتها بإنتاجها، فحينما يحل ضيف فجأة كانت تذبح من مزرعتها بسطح المنزل بطة او دجاجة للتطبخ للترحيب بالضيف فورا، الان ومع عصر الموابايل يتواصل الناس رقميا لكن دون روح، رايت مجتمع مطوبس وبه المحبة والود واذا تنازع اثنان كان الكبار من البلدة يحلون هذا في جلسات ود عرفيه، هل كانت التكنولوجيا متغيرا ضد المجتمع ام تكنولوجيا تقوده الي التقدم؟ سؤال بحاجة الي التأمل قبل الاجابة؟ ولماذا كلما تقدمت المجتمعات ساد الحنين للبساطة؟ وهل نحن في حاجة لأفخم الفنادق لنجذب سياحة ام نحن في حاجة للمنازل البسيطة والحياة البسيطة لكي تعود أرواحنا الي الهدوء ونجذب العالم الي بساطتنا وهدوئنا!