»في يوم من الأيام سوف يجلس أولادنا ليقولوا لأبنائهم كنا نأخذ مصروفا 100 جنيه في اليوم ونذهب إلي المطعم ونتناول وجبة ويعطينا »الكاشير» الباقي عشرة أو عشرين جنيها». كان والدي - رحمة الله عليه - يذهب في أربعينيات القرن الماضي إلي المطعم ويتناول وجبة »فول وطعمبة» ويشرب كوبا من الشاي ويدفع لصاحب المطعم »قرشا» فيعطيه الباقي 2مليم. كانت الدهشة تعلو وجهي عندما يتحدث والدي عن أسعار الماضي والتي تقاس في ذلك الوقت بالمليم فما عرفته من عملات في طفولتي كان »التعريفة والقرش صاغ والنصف فرنك» ارتفعت مع بداية شبابي إلي الخمسة والعشرة قروش وقفزت إلي الجنيه والعشرة جنيهات ومضاعفاتها وأنا في الجامعة. وكان حلمنا في طفولتنا أن نمسك جنيها صحيحا في أيدينا ولذلك كنا ونحن في المدرسة نعمل »جمعية» يدفع كل منا جزءا من مصروفه اليومي لنحصل كل عشرة أيام علي الجنيه.. التعريفة في زمننا كانت خمسة مليمات والقرش عشرة والنصف فرنك قرشين والجنيه 100 قرش.. وأتذكر أنني كنت أذهب يوميا لشراء جريدة »الأخبار» لوالدي أو أشاهدها في يدي »جدي» ومكتوب عليها 15 مليما.. كانت »التعريفه» مصروفي في أولي ابتدائي بالإضافة إلي سندوتشين من الطعمية او الفول او الجبن »القريش» وأحيانا »النستو» او الحلوي الطحينية مع قطعتين من فاكهة الموسم.. وكنت أستغل »التعريفه» قبل ان تصعد وتصبح قرشا وقرشين ثم جنيها وعشرة في شراء »بوريك بالعجوة» أو أستأجر »لفة عجل» وكان يوم سعدي عندما اذهب إلي قرية أسرتي التي لا تبعد سوي 4 كيلو مترات عن مدينة بركة السبع بالمنوفية لأن إيجار »العجلة» في البلد من الصبح حتي المغرب قرش صاغ واحد فقط. لا أتذكر مرتب والدي في ذلك الوقت ولكني كنت مدركا لوضعه أول كل شهر أربعة أو خمسة جنيهات علي» جنب » مقابل إيجار شقتنا بعمارات الأوقاف في امبابة.. وأتذكر أنني كنت اشتري قرص »الطعمية» بقرش صاغ وكان »عم دسوقي» الوحيد الذي يبيع اثنين من الحجم الصغير بقرش ولذلك كان التزاحم عليه كثيرا.. وكنت أذهب يوميا لشراء زجاجة اللبن »المبستر» من انتاج شركة مصر للألبان بثمانية قروش.. و»البطيخة الشلين اوالشمامة الاسماعيلاوي ب 11 أو 13 قرشا وكانت تذكرة »الترولي باص» الذي يعمل بالكهرباء أو الأتوبيس من امبابة إلي العتبة أو الجيزة او العباسية بقرش صاغ اخذت ترتفع حتي وصلت إلي 5 قروش وأنا في الجامعة في مقابل 15 قرشا للميكروباص من جامعة القاهرة إلي بيتي. لم أكن اعلم دخل والدي الذي يصرف منه علي اسرة من 5 افراد شهريا ولكني عرفت في نهاية السبعينيات عندما بدأ أخي الأكبر العمل مدرسا ان الحاصل علي مؤهل متوسط يقبض 16 جنيها ونصفا راتبا شهريا وخريج الجامعة 23 أو 24 ونصف جنيه وكان علي أي شاب بهم أن ينطلق في حياته ويبني بيتا ويبحث عن شريكة له.. وحصولي علي أربعين جنيها مكافأة تدريب بالأخبار في النصف الأول من الثمانينيات وأنا طالب بالجامعة ارتفعت إلي 60 جنيها بعد انتهائي من التجنيد وكان يوم سعدي أن حصلت علي مكافأة 6 جنيهات وعشرين قرشا بعد خصم الضرائب ومعونة الشتاء اشتري بهما ابي لي تيشرت بعد ان استدعاني مدرس الألعاب بمدرستي »الوحدة العربية» وأنا تلميذ بالصف السادس الابتدائي للمشاركة بمجموعات العرض في الاحتفال بمرور عام علي انتصارات أكتوبر وكنت احصل علي 15 قرشا يوميا لمدة شهر ونصف للتدريبات قبل أن ألمح من فوق نجيل استاد القاهرة الرئيس انور السادات وكبار قادة قواتنا المسلحة صانعي النصر ورجال الدولة وهم جالسون بالمنصة الرئيسية. تريك تراك لقد عاش جيلي في طفولته سنوات من الحرمان بعد نكسة 1967 وتحويل اقتصادنا إلي اقتصاد حرب.. هرب تصوير الأفلام إلي لبنان وارتبطت كل احتياجاتنا ببطاقة التموين حتي »الكيروسين» وسيلة معظم الأسر المصرية لتشغيل »وابور الجاز» كان بالكوبون وكانت اختياراتنا للملابس محدودة.. نرتدي في مدارسنا مرايل »تيل نادية» وفي البيت بيجامات من »الكستور» ونشتري الحذاء من محلات »باتا» بجنيه ونصف او جنيهين و»الكوتش» الأبيض القماش للألعاب والذي نستخدم الطباشير للحفاظ علي لونه بتسعين أو خمسة وتسعين قرشا.. ونستأجر تاكسيا من امبابة إلي محطة رمسيس ب 17 قرشا يزداد كل فترة حتي وصل إلي ربع جنيه.. وأتذكر عم »فتحي» جارنا الذي كان يعمل »كهربائيا» في ليبيا وأول من ادخل تليفزيونا إلي عمارتنا وكنا نصطف اطفالا من داخل شقته وفي »الطرقة» بين الشقق وحتي السلم لمشاهدة المباريات وقد أحضر لنا هدية في نهاية الستينيات أو بداية السبعينيات عبارة عن »شباشب» فِل وإيشارب من الحرير الصناعي فقد كان »القبقاب» والذي تطور للشبشب البلاستك الحذاء الرسمي لدخول دورات المياه في زماننا. لم نعرف في طفولتنا من الألعاب سوي »الأولي » التي نستخدم فيها بقايا قطع »البلاط» أو علبة »الورنيش » الفارغة و»التريك تراك»بالقطع الخشبية والسبعاوية ونط الحبل » وكنا عندما نرتقي نلعب » الكوتشينة والسلم والثعبان والليدو » وهي ألعاب يعرفها جيلي..وعندما وصلنا لسن الشباب كانت »الدومينو والطاولة والشطرنج ».. ولدنا وعشنا سنوات من طفولتنا وشبابنا ونحن مرتبطون بالإذاعة ومازلت اتذكر اغنية »يا صباح الخير ياللي معانا » و الجمل الاذاعية التي لا تنسي مثل »غمض عينيك وامشي بخفة ودلع الدنيا هي الشابة وأنت الجدع» و»هنا القاهرة» و»كلمتين وبس» و»إلي ربات البيوت» و»أوبريت »السلطانية» ومسلسل »ريا وسكينة» وقرآن الثامنة ثم »نشرة الأخبار» ونذهب إلي النوم في التاسعة والنصف علي الأكثر لنبدأ مبكرا مع صباح اليوم التالي.. وكان التليفزيون ضيفا جديدا نشاهده في البداية في إحدي الحدائق العامة ونحن نجلس في صفوف علي »دكك» وبجوارنا بائع »الجيلاتي » وحمص الشام.. ومازلت اتذكر اعلانات معجون الأسنان »ارتف بالفلورين» و»اجري بسرعة يا واد يا حسين» عن طعام الأطفال »ريري» وصابون النابلسي شاهين وغيرها من المنتجات المحدودة جدا. نعم كانت حياتنا وطفولتنا بسيطة ويميزها الترابط العائلي والتعاون المجتمعي والجلوس علي مائدة واحدة وكنا نشاهد حفلات أم كلثوم وعبد الحليم عند جارنا قبل ان يشتري لنا والدي تليفزيون »تلي مصر» أبيض وأسود ب 140 جنيها بالتقسيط.. وكان هذا المبلغ تشتري به منزل من دورين قديما في قرية أسرتي. حياة القرية كانت رحلتنا المقدسة في طفولتنا قضاء الصيف في قرية عائلتي »الدبايبة».. نتجمع فيها مع اولاد خالاتي بمنزل جدي لأمي عبدالحليم والي مدير التعليم الذي خرج منذ سنوات إلي المعاش ونشاهد فيها العائلة.. كانت بيوت قريتنا لا تتعدي الدورين وبداخل كل »دار» مخازن لكل ما لذ وطاب من لبن وزبد وقشدة وطيور ودقيق وقمح وذرة ويحيط بها اشجار التوت والجميز والعنب وتخرج منها دائما رائحة الياسمين وطواجن »المشمر والمعمر» والخبز الطازج في الفرن البلدي.. لم يكن بالقرية حتي نهاية النصف الأول من السبعينيات كهرباء وكنا نسهر نتسامر لسويعات قليلة علي لمبة »الجاز او الكلوب» بعد الوجبة الرئيسية في الريف وهي »العشاء».. وكان الفلاحون ينامون مبكرا ليخرجوا إلي الحقول بعد صلاة الفجر لرعاية المزروعات ويأخذوا »القيلوله» عندما ترتفع الشمس بعد أذان الظهر حتي العصر ليعودوا للعمل ثم العودة لبيوتهم مع المغرب وبداية الإظلام.. وقد تغير ذلك مع دخول الكهرباء لقريتنا بهدف ميكنة وسائل الزراعة والحياة ومعرفة البعض السفر للخارج فتفتتت الأسر واصبحت »سيدات البيوت» يجلسن امام التليفزيون حتي ساعات متأخرة بصحبة أزواجهن وأولادهن ويستيقظون عندما تشتد حرارة الشمس فيضيع منهم نهار الشغل.. ومع الأيام تغير كل شئ اغلقت بيوت العائلات واستبدلت بشقق وتآكلت الاراضي الزراعية واختفي اللون الأخضر واجتثت الأشجار المثمرة ليحل مكانها عمائر 5و6 ادوار.. وانتشرت في الحواري والشوارع الرئيسية بالقري محلات الفول والطعمية والسمك المشوي والكباب والمقاهي والغرز واستبدل أتوبيس »الكافوري» بين القري بالميني باص المتهالك مجهول الهوية إلي أن أطاح به وبغيره »التوك توك» وافتقد الناس الرغبة والقدرة علي السير فهاجمتهم الأمراض وضعفت صحتهم.. وقد اصابني »العصبي» عندما اخبرني احد اقاربي انه لم ير امه العجوز منذ 6 اشهر رغم ان المسافة بينهما لا تتعدي 300 متر. لا أعرف حياة القرية الآن فلم أزر قرية اسرتي منذ سنوات بعد وفاة والدي ووالدتي ومعظم كبار العائلة واختفاء مشهد الخضرة بالريف التي كانت تبعث فينا الحياة وأطاح الموبايل والسوشيال ميديا ببقايا الروابط العائلية الحميمة بعد ان صنعت خلافات ومشكلات اجتماعية متعددة..ولكني متأكد كما قال لي زميلي أمير لاشين ان القرية تحولت إلي مسخ فلم تصبح مدينة متحضرة ولم تحافظ علي اصالتها بعد ان استبدل أهلها وجبات الطعام الصحية بالمأكولات المصنعة وتناول اللحوم بطريقة شبه يومية بعد ان كانت في المواسم وكل خميس وتحول الاهتمام بالزراعة إلي الاتجار في الاراضي وبيعها للبناء بحثا عن المال. رحلة العمر تكررت نفس »الدهشة» علي وجه طفليّ »محمد وميريت» عندما كنت اتحدث معهما عن اسعار الماضي فخلال رحلة العمر تغيرت المشاهد والعادات والتقاليد والأخلاق واندثرت الأصالة في المدينة والقرية وأصبح كل شئ بكام وليه والحديث عن القرش والتعريفه والربع والنصف جنيه من الخيال.. ورغم زيادة ارقام المرتبات ارتفعت الأسعار وتوحشت بصورة جنونية خاصة مع الانفتاح علي العالم وتحول »الكماليات» في زمنا إلي »أساسيات» مع تنامي وسائل الترفيه التي تنهال علينا من كل حدب ودرب.. وأنا علي ثقة بأنه في يوم من الأيام سوف يجلس اولادنا ليقولوا لأبنائهم وأحفادهم كنا نأخذ مصروفا 100 جنيه في اليوم ونذهب إلي المطعم ونتناول وجبة ويعطينا »الكاشير» الباقي عشرة أو عشرين جنيها.. حقا بقاء الحال من المحال.