كُنت في المدرسة الإبتدائية عندما واجهت لأول مرة المثل الدارج عن كتابة ما تعرفه. واستنتجت ذلك من خلال التعليقات التي قِيلت بلباقة من معلمتي عن القصة التي كتبتها آنذاك وتدور عن قاطع طريق في القرن الثامن عشر. لدغتني إجابتها الفاترة، اللامبالية، وبُناء عليه رفضت النصيحة الخارجة عن السيطرة. فكرت، كم كان الأمر سخيفًا. يا لها من قيود. ماذا عن الخيال العلمي؟ الفانتازيا؟ماذا عن الكتابات المُتخطية لحدود المؤلف الجنسية أو العرقية أو السن؟ بعد عِدة عقود، بطريقة ما أخمد الأسي النابع من نقد المعلمة، وصار في استطاعتي الرؤية وبشكل واضح عن القليل مما كانت تريد توجيهي ناحيته. الخطأ الأول الذي قمت به كتلميذة كان افتراض أنّه طُلِبَ مني الكتابة بشكل حصري حول الأشياء التي حدثت لي. في الحقيقة، النصيحة[تلك كانت] فقط لتعرف؛ فالعمل الآتي عبر معرفتك يظل مُتاحًا علي الدوام. نعم، من المؤكد أنّك تستطيع التنقيب في حياتك الشخصية. ولكن أيضًا يُمكنك عاطفيًا ملاحظة خبرات الآخرين. يُمكنك القراءة والبحث، أو استخدام مُخيلتك. ما يعرفه الكُتاب المُبدعون عن مواضيعهم أنّها عادة ما تخرج مرسومة من خلال بعض المزيج المنبثق من هذه المصادر. يبدو من الضروري القول بأنّ الإشكالية مع قصتي عن قاطع الطريق هو أنني لم أرسم أو أتخيل أية من هذا المزيج. لم يُكن مهمًا بالضروروة أنني لم أسرق أبدًا حنطورا. ولكن الأمر كان مهمًا أنني لم أزعج نفسي لمعرفة أي شيء ، أو حتي حدث ذلك جزئيًا بالخيال،عمّا هو ممكن أن يستلزمه سرقة الحنطور. الخطأ الآخر، غير الملحوظ الذي فعلته – واستمررت علي ارتكابه فيما بعد لفترة طويلة – كان افتراض أن ترجمة الخبرة المعرفية إلي الإبداع أمر بسيط، مباشر، وعمل سخيف. وبالنسبة لمعظم الكُتاب، بالتأكيد يتطلب الأمر منهم الكثير من العمل المضني والعديد من البدايات المتعثرة قبل الوصول إلي المكان الذي منه يستقون أكثر الأمور قيمة وتشويقًا من حياتهم الذاتية. يصف فيدور سوراجبراساد نيبول في روايته »لغز الوصول» رحلته بالغة الأهمية التي قام بها بفترة قصيرة قبل عيد ميلاده الثامن عشر، من [جزيرة] ترينيداد حتي إنجلترا. الرحلة الطويلة – من بورت أوف سبين[عاصمة ترينيداد] إلي بورتوريكو حتي نيويورك عن طريق الجو؛ ثم من نيويورك حتي ساوثهامبتون بالسفينة – بدت [حينها] مادة حية ثرية لكتابته، وهو بشغف كان يُدون ملاحظاته داخل دفتر يوميات خاص. ولكن بعدها بسنوات عندما كان عليه أن يفحص هذه الرواية، وجد أنّه استأصل أكثر العناصر المشوقة التي رأها وشعر بها، وأعتبر أدبية غير كافية –حيث الحفاظ علي »الروعة، المعرفة، عدم الاندهاش» لشخصية الكاتب التي تمني افتراضها. وداع عائلته له في ميناء بورت أوف سبين؛ ابن خالته الذي انتحي به جانبًا ليخبره سرًا بأنّ عليه الجلوس في مؤخرة الطائرة لأنّه سيكون أكثر أمانًا هناك؛ الشجار علي متن السفينة، عندما غزا مقصورته رجل أسود واشتكي إليه بأنّه لابد لهما من التكتل سويًا نظرًا لأنّها » مُلونان» - غابت كُل هذه المشاهد، مثلما اندثرت كُل الاعترافات عن وحدته، عن فزعه، »عدم نضج» أعصابه. ما سجله عوضًا عن ذلك كانت هذه الحوادث وفتات الحوارات التي بدت أنّها تؤكد فكرة نضوح العالم الذي جُمعه من الكُتب والأفلام. »لذلك، علي الرغم من السفر لأجل الكِتابة مركزًا علي خبراتي وشغوفا باكتساب تجارب أخري، حبست نفسي عنه، حاذفًا ما حدث من ذاكرتي.» معظم الكُتاب، ولأسباب عديدة سواء نابعة من الخجل، التكبر، أو الخوف من المكاشفة، يفعلون نفس الشيء في بعض نقاط حياة الكتابة الخاصة بهم – وبلا وعي يراقبون أنفسهم، يعمدون إلي فصل هذه النفاية غير الأدبية عنهم. بهذا الإحساس، يذكرك دائمًا بأن تكتب ما تعرفه – ما تعرفه حقًا، بدلاً من البقعة الزلقة لتلك النٌسخة المخادعة لما تعرفه . تظل نصيحة سديدة، ليس فقط لهؤلاء التلميذات اللائي هن في الحادية عشرة من عمرهن، ولكن لكُل الكُتاب في كافة الأعمار. محسن حميد »كتبت من وجهة نظر سيدة، من وجهة نظر نظام رقابي عالمي، من وجهة نظر كاتب مقطوع الرأس» الكُتاب، وبخاصة الشباب منهم، دائمًا يسمعون هذا التحذير »أكتب ما تعرفه» . هذا أمر مفهوم. حيث أن بعض أفضل الإبداعات الأدبية التي كُتبت قبلاً قد تتبعت هذه النصيحة. فلتأخذ رواية كنزابورو أوي »مسألة شخصية». نُشِرت في 1964، وتسرد حكاية هذا الرجل حيث ابنه وُلِد فيما يبدو أنّه فتق في الدماغ ؛ فتنهار حياة البطل في الرواية؛ واضعًا في الاعتبار قتل طفله. في عام 1963، ابن أوي نفسه وُلِد بتشوهات دماغية. لذلك يبدو علي أوي أنّه بالفعل كتب ما عرفه – عن التأثرات المُدمرة. قرأت الرواية لأول مرة منذ عشرين سنة، ولم أكُن قادرًا علي نِسيانها. لأنّ أمانتها، وإنسانيتها مذهلتان. فلقد كان لها تأثير علي خبرتي الشخصية لكوني أبا، حيث عملت علي تجريد الأسطورة الأبوية وكذلك علي جعل بسطاء الناس أكثر قيمة وكرمًا. علي النقيض رواية » صانع النجم» لأولاف ستابليدون، يبدو عليها أنّها بالتأكيد [دليل] علي الكِتابة عما لا تعرفه. فلا يُوجد أي تسجيل يقول أن ستابليدون غادر الأرض، سافر عبر الفضاء بوعي دون جسد، المواجهة والامتزاج مع أشكال من الحيوات الأخري والحضارات وفي النهاية مع النجوم والكون نفسه. ومع ذلك فهذا ما فعله بطل الرواية بالتحديد، الرواية التي خرجت في 1937م، حيث تعد من أفضل روايات الخيال العلمي التي كُتبت . يحاول ستابليدون الوصول لشيء ما، شيء - لأنني لا أملك تعبيرا أفضل - إلهي ويبدو لأنه لمسه. يُعد إنجازه مُذهلا من ناحية الخيال والعاطفة. من الممكن أن يكون شريط الحمض النووي –DNA - للإبداع، يٌشبه شريط الحمض النووي –DNA - لنا، حلزون مُزودج، وحشان عالقان. أحدهما وُلِد في مكان ما وشهد علي خبرة الكُتاب. أما الآخر وُلد من المكان الذي يأمل أن يستقي منه الكُتاب الخبرات،من المكان الدافع لهم للكتابة تمهيدًا للمعرفة. يأتي الإبداع إلي الواقع عندما يُكون هذان اللولبان مجدولين مع بعضهما. »مسألة شخصية» مُختلفة في بعض العناصر المفتاحية عن حياة أوي نفسه حيث،علي سبيل المثال، في نهايتها، عندما نعلم عن شيء ما عن حالة الصبي والتي ترفع إحساسنا عمّا قرأناه مُسبقًا. و في صانع النجوم» ملحمة حول إمكانية إيجاد اتحاد علي حافة الصراع العالمي،لا يمكن أن يكون انبعث إلا من خبرة ستابليدون نفسه لكونه كان في أوربا بعد الحرب العالمية الأولي وعشية الحرب العالمية الثانية . في كِتابتي الخاصة، أكون علي وعي للجمع بين هذين العالقين. عُندما أسأل، غالبًا ما أقول بأنني لا أعمل علي القيام بالكثير من البحث ناحية إبداعي، أنا فقط أعيش حياتي. ( وهذا قاد أحدهم أثناء مُحاضرة عن الإلهام كُنت ألقيها العام الماضي في جامعة كراتشي » كيف كتبت كُل هذه المشاهد عن المخدرات في رواية » دخان العثة»؟ إجابتي كانت : إمممممم ..... » ) ولكنني أيضًا أكتب عن أشياء لم أختبرها قبلاً. كتبت من وجهة نظر سيدة، من وجهة نظر نظام رقابي عالمي، من وجهة نظر كاتب مقطوع الرأس. كتبت هذه الأشياء لأنني أريد أن أتخطي خبراتي. أريد الذهاب خلف ذاتي. الكتابة ليست فقط مرآتي، ولكنها جهاز الإسقاط النجمي الخاص بي. أشك بأنّها تعني كذلك بالنسبة لمعظمنا. في النهاية، ما نعرفه ليس بضاعة استاتيكية ثابتة. إنها تتبدل من الكتابة عنّها. فالسرد القصصي يغير القصة. والقصة تتغير عندما تُحكي وتقص. الإنسان نفسه منسوج من الحكايات. هذه القصص مُتجذرة جزئيًا عبر خبراته، والجزء الآخر من خياله. تكمن قوة الابداع في تكثيفها للنظرة علي هذه الحالة الغريبة لوجودنا، لتسمح لنا أن نلعب مع الأحجية حيث نصنع أنفسنا بينما نمضي قدمًا للأمام. أجسادنا هي عبارة عن آلات بيولوجية مُعقدة. طالما تعيش، فهي تنسج قصة حول أنفسها لتؤدي وظيفتها. نطلق علي هذه القصة النفس أو الروح. نعتقد في واقعية القصة. نعتقد بأن القصة تتحكم بالآلة. وفوق ذلك دائمًا يتم تذكيرنا بأنّ الأشياء ليست بتلك البساطة. نقوم بفعل الأشياء ليس من أجل الحفاظ علي قصصنا، ولكن أشياء مرعبة في بعض الأحيان، وعندما نفعل ذلك، نقول» لم أكن أنا» . الكتابة هي فرصة لهذه القصص التي هي نحن؛ لتصل إلي تفاهم مع العناصر الغريزية الخيالية. لذلك أكتب ما تعرفه. ولكن أيضًا تعلم ما تكتبه.