سألت احدي المعلمات التي رأيتها تملي علي تلاميذها في المرحلة الابتدائية اجابات الأسئلة، لم تفعلين ذلك؟ فقالت: إنهم غلابة السبت: صار الغش عيني عينك، بعد أن كان قديما صناعة لا يكتشفها إلا خبير، قال عمر بن الخطاب لسنان بن سلمة وهو يومئذ غلام : أرني أنظر إليه، فإنه لا يخفي علي، وذلك أنه قال لعمر في تمر بيديه: هذا مما ألقت به الريح، أي أنه لم يضرب نخل الانصار بحجر ليأكل من تمرهم، وإنما أخذ شيئاً مما ألقت به الريح في الطريق، ولو أن تاجرا أو بائعا أخذ التمر الرديء الذي ألقت به الريح، وباعه بسعر المستوي علي عوده أو أبيه - كما يقولون- لما اهتم بذلك أحد. ولو قلت للذي اشتراه: إن هذا تمر رديء مما ألقت به الريح يا حاج، فكيف تدفع فيه ما قد دفعت؟ لضحك، وقال لك: يا عمي »مش فارقة» فإن قلت: لا فارقة، هناك فرق بين الجيد والرديء، لأجابك: بس حلو والله، تاخد لك شوية، والنبي اللي نفسك تزوره، وتحط إيدك علي شباكه تدوق، دا عسل. وإن كان ممن يمارسون الفلسفة قال لك: كل شيء في هذا الزمان مغشوش، لم يعد شيء أصليا في هذا الزمان، حتي الإنسان صار في هذا الزمان مغشوشا، وظل يسرد علي مسمعيك صورا من الغش حتي ينتهي بك إلي العبارة المحفوظة، قل يا باسط، أو يا عم صل علي النبي. وقد تستشير صاحب السلعة أي صنفيها تشتري، الأصلي أو التجاري؟ فيقسم لك بوكيد الأيمان أنه لا فرق، حتي يبيع لك المخزون من التجاري عنده، وهو يعلم أن الأصلي لا يعلي عليه، والعجيب أنك تعلم أنه غاش لك في هذا الذي قال، أصبح الغش عيني عينك فلم يعد في حاجة إلي من يقول: امسك غشاشا، وصرنا نري الطلاب في مراحل التعليم المختلفة يغشون عيني عينك في الامتحانات، وقد سألت احدي المعلمات التي رأيتها تملي علي تلاميذها في المرحلة الابتدائية اجابات الأسئلة، لم تفعلين ذلك؟ فقالت: إنهم غلابة، فضحكت لأن الدموع لم تسعفني، غلابة! والعجيب أني رأيت من يسألني الدعاء للطلاب بأن يراقب عليهم مراقبون رحماء، فسألت: كيف يكون المراقب رحيما؟ فقيل لي يكون رقيقا غير متزمت، يسمح لهم بأن يساعد بعضهم بعضا، فيملي من يدري علي من لا يدري، ورأيت الطلاب يتبادلون مفردات المنهج، يقول أحدهما لصاحبه الذي يجلس أمامه في لجنة الامتحانات، عليك بمراجعة باب كذا، وعلي أن أراجع باب كذا، وأنا أملي عليك سؤاله؟ وأنت تملي علي سؤال ما راجعت، وإذا رأينا جدلا في السوق حول سعر بضاعة سمعنا هذا الخطاب، يا عم صل علي النبي، أنت عارف، وأنا عارف، وقد نصحت لأئمة المساجد في أحد برامجي أن دعاءهم ربنا سبحانه وتعالي بأن يُنجح جميع الطلاب دعاء باطل، لأننا نسأل الله أن يرزقنا الغش فيهم، وذكرت أن الصواب أن يكون الدعاء هكذا: اللهم وفق المجتهدين من الطلاب للنجاح والفلاح. نقسم البلد نصين الأحد: كنا نسمع هذه العبارة (نقسم البلد نصين) بمعني أن نتفق علي شيء لا ضرر فيه ولا ضرار، أي لا يظلم أحدنا الآخر، وهو يوافق ما قاله الناس من قديم: إذا عز أخوك فهن، أي إذا شد أخوك الحبل فكن أنت لينا حتي لا يقطع، أو المعروف بشعرة معاوية، حين قال: لو كان بيني وبين الناس شعرة لما قطعت، إذا شدوا أرخيت، وإذا أرخوا شددت، وقد شاهدت من صور ذلك أن قال فلان: أنا أبيع بمائة وأمامه من يقول: أنا اشتري بسبعين، فيأتي من يقول: نقسم البلد نصين، حكمت بثمانين أو خمسة وثمانين وكانت البيعة تتم بقسمة البلد نصين، ويحدث التراضي بين الطرفين دون أدني مشكلة، واليوم صار قسمة البلدين نصفين في الغش، يقول صاحب الصنعة أنا أعمل لك كذا بكذا وأتحدي أن يكون أحد قد عمل لك ما سوف أعمل، أو أن أْعمل لك علي قدر فلوسك، واختر فيرد، عليه المحتاج إلي صنعته قائلا: نقسم البلد نصين، أريدها صناعة مائة بالمائة وبأقل مما قلت: أو أن يقول له: لاجل النبي يا شيخ لتعملها مائة بالمائة وبالثمن الذي أقدر عليه، أو عشان خاطري، وهو بذلك كله يستجديه، أو بمعني آخر يريد أن يغشه ولكن بنعومة لأنه علي يقين أنه لن يؤدي تلك الصنعة علي الوجه الأتم والأكمل إلا بما يريد من مال، هذا إن كان صادقا فيما زعم، بأن يتمها علي خير وجه بما سأل، فقد يقول هذا من باب المبالغة، وهو يعلم أنه غاش، وأنه لن يتم ولكن يكمل. المصدقون ضحايا الغشاشين الاثنين: بكت عيناي حيث الدمع غال، حين رأيت زوجة شابة تشتري من البائع حاجتها، وتقول: كم؟ فضرب لها سعرا عاليا، فقالت: وبكم الكيس الذي وضعت فيه الحاجة، فنظر إليها وقال: لا لا الكيس هدية مني، فأصرت أن تدفع ثمن الكيس شاكرة وممتنة، فلما انصرفت قال البائع: ارزقنا من ده يارب، أي ارزقنا من المصدقين الذين هم ضحايانا نحن معشر الغشاشين . تذكرني قصة هذه الفتاة التي لم تنزل يوما إلي السوق، وهي في بيت أبيها، فلم تعرف ألاعيب الباعة، والفصال ولا أن تسأل البائع مزيدا من الأكياس، خصوصا إذا اشترت أكثر من صنف، تري أن ذلك من حقها، إذا وضع لها البصل والبطاطس في كيس واحد، توهمه أنها ستضع البطاطس في كيس، والبصل في كيس آخر، وهي لن تفعل ذلك، وإنما تري ذلك من حقها، وهي تنوي أن تستعمل الكيس الجديد في غرض آخر في البيت. تذكرني تلك القصة بما حدث لي حين كنت طالبا في الفرقة الأولي بالدراسات العليا، خرجت وفي نيتي أن أشتري الفتوحات الإلهية من المكتبات التي كانت بسور جامعة الأزهر بالدراسة في مواجهة المشهد الحسيني، ووقفت أمام مكتبة بها فتاة مخمرة، تبدو آيات النور علي وجهها، وسألتها: هل أجد عند حضرتك الفتوحات الإلهية؟ قالت وهي تبتسم: تصدق وتؤمن بالله؟ أنت أمك داعية لك، قلت: أحلف علي هذا وبدعواتها أعيش. قالت: آخر نسخة في السوق، فأخذت أحمد الله تعالي أني وجدتها قلت: بكم؟ قالت بمائة وخمسة وعشرين، وحينئذ حمدت الله تعالي مرة أخري حيث كان المبلغ المطلوب هو كل ما معي، واستسمحتها في أن تتنازل لي عن جنيهين للتاكسي رحمة بالمجلدات الأربعة من عنت المواصلات، لا رحمة بي، فوافقت، وأعطتني الكتاب وجنيهين وأخذت المائة والخمسة والعشرين، وناديت تاكسيا أمامها، وكانت أجرته من الدراسة إلي عين شمس حيث كنت أسكن جنيها ونصف الجنيه، ومن فرحتي بحصولي علي النسخة اليتيمة في الوجود أعطيت سائق التاكسي الجنيهين، وأقسمت ألا آخذ منهما شيئاً، ولما أصبح الصبح، وذهبت إلي الكلية، وهنالك رأيت رغبة عند زميلي العلامة الدكتور ناصر فرحات في شراء الفتوحات، فقلت له: خذ نسختي وصورها، ولم تكن في القاهرة وقتها إلا ماكينة تصوير في ميدان العباسية، أو خذ المجلد الذي تريد، وانقل أو صور منه ما شئت، فسألني زميلي ولماذا؟ قلت: لأن آخر نسخة منه قد اشتريتها بالأمس بفضل دعاء والدتي كما قالت بائعة الكتاب، قال زميلي: لن نخسر شيئاً إن سألنا، وتقدم وأنا خلفه أتصور أننا نضيع الوقت، وهو عمرنا، ويجب ألا نضيع منه لحظة، فسأل صاحب مكتبة مجاورة لمكتبة المباركة المخمرة، وقال: أأجد عندك الفتوحات الإلهية؟ فقال صاحب المكتبة: تريد نسخة مصر أم نسخة بيروت؟ قال عبدالناصر: نسخة مصر، بكم لو سمحت؟ قال بستة وعشرين جنيها، فقال عبدالناصر: لن أدفع إلا عشرين، فقال الرجل هات اثنين وعشرين، فدفع عبدالناصر وتسلم من الرجل النسخة وأنا تدور بي الأرض، ويغلي بالغضب دمي، وأمسكت بنسخة، جذبتها من يد زميلي وملت خطوتين نحو الفتاة، وصرخت: أمك داعية لك هاه، آخر نسخة!! هاه، مائة وخمسة وعشرين!! يا ابنة اللصوص، ووجدت الفتاة تعطني الباقي، وتسألني الستر، وستر الله حيث لم ألفظ آخر أنفاسي من هول المفاجأة التي لولا أني من المصدقين لما كانت تلك المفاجأة، ولا الصدمة، ولا ما شعرت به من سوء الغش، الذي كاد يجعلني مع الغابرين. عاقبة الغش الثلاثاء: وعاقبة الغش نار لظي يصلاها من طفف في الكيل والميزان، ومن زاد علي الناس بغير وجه حق، قال تعالي:»بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَي النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ » وفي الصحيح الذي رواه البخاري وغيره يقول صلي الله عليه وسلم: »من غشنا فليس منا» أي ليس ممن يتصف بكامل صفاتنا، صحيح أنه لا يخرج عن الملة فيحل دمه وماله ويمنع من ميراثه، ولو مات لا يورث لاختلاف الدين، لكنه مذموم عند الله تعالي، مذموم عند الناس فالمعاملة في هذا الدين مبنية علي الصدق لا علي الكذب، وعلي الأمانة لا الغش، وقد رأيت أن العقاب أو الآمال مرتبط بيقين العبد به، لأن من الناس من لا يكترث بالعقوبة لا سيما المؤجلة منها، فلو عرضنا علي مجرم جريمته ولكنا عرضنا عليه قبل أن يرتكبها حفرة سيرجم فيها بعد الفراغ من ارتكابها ، أو حجرة فيها نار تستعر، وأريناه إياها، وقلنا له: سوف نقذفك فيها بعد فراغك من جريمتك فلن يرتكب جريمة، لأن العقاب فوري، أما عقاب الله تعالي فمؤجل إلي يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم والفرق بين من كان يقينه حيا نابضا، ومن كان يقينه باهتا شاحبا أو ميتا أن صاحب اليقين الحي يري جهنم أمامه رؤية العين، كأنها تدعو من أدبر وتولي، وجمع، فأوعي الآن لا يوم الدين، ولذلك قال الله تعالي: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ» وهذه الآية من سورة الأعرف عندي دليل علي أن المتقين يصيبهم ما يصيب غيرهم من الإقبال علي المعاصي، غشا كانت المعصية، أو غير غش، لكن الفرق بينهم وبين غيرم أنهم يتذكرون قبل الوقوع في المعاصي، بينما يغرق غيرهم فيها، والدليل كذلك علي هذا قول الله تعالي حكاية عن مريم - عليها السلام- »قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا » أي ان قلت لك أعوذ بالرحمن منك وكنت رجلا تقيا فلن تقبل علي انتهاك عرضي، لأن التقي إذا قيل له اتق الله، أو قيل له أعوذ بالرحمن منك ارتدع أو علي تفسير الآية الكريمة من سورة الأعراف، تذكر فانتهي ، وصدق الله العظيم إذ يقول » فَإِنَّ الذِّكْرَي تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ » وهذا بخلاف من كان في قلبه مرض، إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، أي يزداد إقبالا علي الشر، كأنه يقول لمن يقول له اتق الله: لن أتقي وأرني ما سوف يكون، كمنطق الكافرين الذين قال لهم أنبياؤهم اعبدوا الله مالكم من إله غيره، فقالواائتونا بعذاب الله إن كنتم صادقين. بل إن منهم من دعا الله فقال اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ونحن في حاجة إلي تربية التقوي في القلوب بنبض حياة صحيحة تسري في مناحينا، لأن تربية التقوي تحتاج إلي بيئة مشاهدة محسوسة قبل أن تكون خطبا ومواعظ.