فى الجلسة الافتتاحية للمجمع الكنسى للشرق الأوسط فى 11 أكتوبر الجارى فى الفاتيكان، اعتبر بطريرك الكاثوليك بالإسكندرية أنطونيوس نجيب أن مطالبة أى فرد يسعى للحصول على الجنسية الإسرائيلية بإعلان الولاء لإسرائيل كدولة «يهودية ديمقراطية» مخالفة صريحة للديمقراطية، وقد كانت لتصريحات البطريرك الكاثوليكى المصرى مغزاها القوى، ليس فقط لأنه ترأس الجلسة الافتتاحية للمجمع الكنسى الكاثوليكى، ولكن أيضًا لأن البابا بينيدكت السادس عشر دعا إلى هذا المجمع لمناقشة ظاهرة التراجع العددى الواضح للمجتمعات المسيحية فى الشرق الأوسط، وأبرز مثالين على هذه الظاهرة هما إسرائيل والعراق المحتل. قبل احتلال العراق كان للمسيحيين العراقيين دور بارز فى العراق لا يقف عند حدود الدور الذى كان يلعبه طارق عزيز، وقبل قيام إسرائيل كان للمسيحيين دور بارز فى الحياة الفلسطينية، فماذا جرى بالضبط؟ أنا أرجو كل من يتابع هذه المسألة أن يراجع الإحصاءات السكانية فى مصر- قلب الشرق الأوسط- حتى عام 1952 وسوف يكتشف أن معدل تناقص السكان المسيحيين فى مصر بدأ فى 1946 العام الذى شهد نهاية دور مكرم عبيد «المجاهد الكبير» والذى اكتسبت فيه ديماجوجية أعداء الوفد قوة لازالت تتصاعد حتى اليوم، عبر قنوات جديدة وبأشكال جديدة، فهل هناك علاقة بين تصاعد الديماجوجية خاصة المتأسلمة، وبين تراجع معدلات النمو السكانى للمسيحيين فى البلاد؟ ليس هذا مستبعدًا ولكن قد تكون هناك أسباب أخرى، لقد بدأت العناصر غير المسلمة من السكان الوطنيين والوافدين تشعر بتحول يوشك أن يحدث فى مصر، وبدأت هذه العناصر ترحل عن البلاد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولابد أن نتذكر أن نهاية الحرب العالمية الثانية كانت نهاية الهيمنة الأوروبية على شئون العالم عموماً وشئون الشرق الأوسط خصوصًا، وقد ضمن الأوروبيون الحماية للعناصر غير المسلمة من وطنيين ووافدين عن طريقين: أولهما «التنظيمات» التى فرضت على الدولة العثمانية والتى أتاحت لمسيحيى الشرق ازدهارًا واستقرارًا لم يتمتعوا به طوال تاريخهم القديم والحديث، والثانى كان التمكين لسلالات ملكية متسامحة مع غير المسلمين وخاصة الأسرة العلوية فى مصر والهاشميين فى العراق والأردن، وقد كان ذلك خارج منطقة النفط الحساسة والتى لا يجوز فيها التجريب خاصة أنها منطقة دين واحد. وتغيرت الدنيا خاصة بعد تأسيس دولة إسرائيل وضغطت المتغيرات على العرشين المصرى والعراقى، فانهارت الملكية فى البلدين، واتخذ التاريخ لنفسه مسارًا جديدًا لايزال يمضى فيه إلى الآن، بكثير من الصعوبة، ميلاد إسرائيل وحلول الهيمنة الأمريكية محل الهيمنة الأوروبية يعنيان أن العلمانية بالمفهوم الفرنسى الذى يحتم الفصل بين الدين والدولة لم يعد واردًا، الوارد الآن فى كل بلدان المنطقة هو اتباع العلمانية الإنجلوساكسونية، العلمانية التى تحترم الدين، ومثالها التاريخى هو إنجلترا حيث الملكة هى رئيسة الدولة ورئيسة الكنيسة وحامية العقيدة الإنجليكانية. منذ تأسيس جمهورية يوليو وهى مستوعبة لهذه الحقيقة التى تقوم على التنوع الدينى داخل وحدة وطنية، لكن يحبط جهودها قصر نظر الإخوان المسلمين وشراسة الضغوط الأمريكية لا تكتفى بالتوافق فى الهدف ولكن تريد أن تفرض خريطة طريق للوصول إليه. تجربة يوليو التى أعطت القومية العربية والاشتراكية بعدًا إسلاميًا لم تأت إلا فى إطار العلمانية بمفهومها الجديد، لكن الدعاية المضادة للتجربة داخليًا وخارجيًا، أفزعت مسيحيى الشرق، رغم أن الشرق العربى الجديد لم يقم على التطهير العرقى ولا على طرد وترحيل عناصر عرقية أو دينية، إلا فى إسرائيل. لكن إذا كان المنطقة تمضى نحو تعددية دينية داخل كل وحدة وطنية، باستثناء الأطراف فى فلسطين والسودان، وربما لبنان، فلماذا كان المسيحيون أكبر الخاسرين؟ لأن التعددية الدينية والطائفية فى الأندلس المقلوب هى لصالح اليهود والمسلمين، وعلى حساب المسيحيين.. كيف؟ وما هو الأندلس المقلوب؟ سأوضح وجهة نظرى فى الأسبوع المقبل، لكنى أقول إن مسيحيى مصر بكل طوائفهم، فوق هذا كله، بقوة الحقيقة الوطنية المصرية التى كف أقباط مصر منذ عام 1946 عن رعايتها الواجبة عليهم.