من يعرف السودان جيدا يذوب عشقا في هذا البلد.. وسيغمره الحزن ، وهو يراه يتجه إلي كارثة تداعيات انفصال الجنوب.. شعرت بذلك عندما تحدثت إلي الإخوة هناك.. وزاد إحساسي بالمأساة كلما حضرت لقاء في القاهرة مع أطراف سودانية قادمة من الشمال أو الجنوب.. أو كلما تابعت ما تنشره وسائل الإعلام عن انقسام السودان.. وكأن المأساة قد وقعت بالفعل.. رغم أن استفتاء تقرير مصير الجنوب سيجري يوم 9 يناير القادم.. والمشكلة أن الآراء والمواقف المطمئنة تتراجع.. ويزداد صخب الاتهامات والتهديدات في جوباوالخرطوم.. لتعيد للأذهان صور الحرب التي استمرت بين الطرفين لأكثر من عشرين عاما وراح ضحيتها مليون قتيل وملايين المصابين والمشردين.. أتمني أن أكون متشائما.. ولكن ما جمعته يحمل الكثير. في فبراير الماضي استضافت القاهرة حوارا بين شريكي الحكم في السودان وهما حزب المؤتمر الوطني، والحركة الشعبية لتحرير السودان في محاولة لحل الخلافات بينهما.. وقتها حضرت لقاء تحدث فيه «باقان أموم» - الأمين العام للحركة الشعبية - وكانت كلماته تحمل ميلا خفيفا لاتجاه الجنوبيين نحو الانفصال.. ورغم ذلك دعا لقيام دولة ديمقراطية علمانية في السودان ترتكز علي التعددية السياسية والثقافية.. بعدها زاد حديث القادة الجنوبيين عن الانفصال حدة.. لدرجة أن سلفا كير - رئيس حكومة الجنوب - صرح مؤخرا بأنه يفضل خيار انفصال الجنوب عبر الاستفتاء.. مبررا موقفه بأن الحكومة الاتحادية في الخرطوم أوقفت مشروعات التنمية في الجنوب.. وأنها لم تعط الجنوبيين سوي 26% من عائدات النفط بدلا من 50% تطبيقا لاتفاق السلام الشامل.. وحذر من أعمال عنف واسعة النطاق إذا تأجل الاستفتاء. وقال «باقان أموم» لم يعد أمامنا سوي 80 يوما علي موعد استفتاء تقرير مصير الجنوب، وإذا فشل الجانبان الشمالي والجنوبي في تسوية القضايا العالقة بينهما قد يؤدي ذلك إلي نهاية عملية السلام.. والسلام قد ينهار في السودان.. ورد قادة الشمال علي مثل هذه التصريحات بتصريحات أكثر حدة مما زاد الموقف اشتعالا.. حيث أعلن الرئيس البشير بأنه يأسف لأن رئيس حكومة الجنوب أفصح علنا عن نية الانفصال ، وهو ما يخالف بنود اتفاق السلام.. والتي نصت علي أن يعمل الجميع علي جعل خيار الوحدة جاذبا لشعب الجنوب قبل الاستفتاء.... وهو الاستفتاء الذي يجب أن يتم بعد تسوية الخلافات حول ترسيم الحدود وكيفية اقتسام الديون وعائدات النفط والمياه ومن له حق التصويت حول منطقة أبيي، وأضاف أن الفشل في حل هذه الخلافات قبل موعد الاستفتاء في يناير القادم سيحول الاستفتاء نفسه إلي مشروع لصراع جديد بين الشمال والجنوب. الانفجار لم يتوقف انفجار المشاكل بين الخرطوموجوبا، بل ازدادت حدته خصوصا بعدما طالب سلفا كير المجتمع الدولي بنشر قوات الأممالمتحدة علي طول الحدود الممتدة بين الشمال والجنوب وبعمق 16 كم وهو ما تحفظت عليه الحكومة المركزية - كما أكد قطب الفاضل أمين المنظمات بحزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان - واعتبر ذلك مخالفا لاتفاق السلام الذي ينص علي موافقة طرفيه - جوباوالخرطوم - علي أي تعديل في تفويض قوات حفظ السلام الدولية المنتشرة في جنوب البلاد، وولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق اللتين يشملهما اتفاق السلام ، وأكد أن مهمات البعثة الدولية تنتهي عقب الاستفتاء. ولم تتوقف الانفجارات المتعلقة بقضية الحدود بين الشمال والجنوب عند هذا الحد - رغم جهود التهدئة بين الجانبين - فمثلا اتهم رياك ديفول - نائب رئيس لجنة ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب «وهو من قيادات الجنوب» - حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان بعدم الجدية في ترسيم الحدود بين الجانبين.. وأكد أن اجتماعات اللجنة متوقفة منذ 28 سبتمبر الماضي لغياب أعضاء اللجنة الشماليين.. لذلك نحن في الجنوب نري أن حسم الخلاف حول هذه القضية سيحتاج إلي وقت طويل جدا، ويمكن حلها بالرجوع إلي خرائط عام 1956 وإجراء الاستفتاء حول مصير الجنوب في موعده.. علي الجانب الآخر أكد محمد مندور المهدي - رئيس حزب المؤتمر الوطني في الخرطوم - أن الجنوبيين لا يريدون حسم الخلاف حول الحدود قبل الاستفتاء حتي تصبح القضية عالقة بين الطرفين.. وهدفهم تحويل قضية الحدود في حالة الانفصال الذي يريدونه إلي قضية بين دولتين.. وربما لذلك طالب الجنوبيون بقوات دولية علي الحدود التي لم يتم ترسيمها وتحديدها أصلا والمشكلة أن الجنوبيين لديهم نفوذ واسع في مؤسسات دولية تثير المشاكل لنظام الحكم في السودان، وتحاول مساعدة الجنوبيين علي الاستيلاء علي مناطق حدودية مختلف عليها لذلك رفضنا إجراء الاستفتاء بدون استكمال ترسيم الحدود ضمانا لسلامة الاستفتاء وتفاديا للرجوع إلي مربع الحرب. الحرب أغرب ما في الأمر أن كل الأطراف تقريبا تسعي للتهدئة كما أنها في نفس الوقت تستعد للحرب القادمة في السودان بعد انفصال الجنوب قالها صراحة مستشار الرئيس السوداني مصطفي إسماعيل عندما صرح بأن انفصال الجنوب أمر وارد وأن الحكومة المركزية في الخرطوم تستعد لذلك علي كل المستويات.. ولكن سيناريو الحرب وارد أيضا، وأن حكومته تستعد لذلك أيضا، والأخطر ما قاله حسن الترابي- الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي المعارض - حيث أكد أن السودان مقبل علي مخاطر متداعية.. وإذا انفصل الجنوب فسوف تنتشر العدوي داخل السودان.. وقال أخشي أن يحدث للسودان ما هو أسوأ مما حدث للصومال..وربما استعداد لهذا السيناريو - كما أكدت لنا بعض المصادر الجنوبية - أصدر سلفا كير رئيس حكومة جنوب السودان قرارا بالعفو عن أربعة من قادة الميليشيات التي قادت التمرد علي حكومته خلال الفترة الماضية وهم «جورج أثور وروبرت قوانق.. وقلواك دينق.. وغبريال دينج..» وأعلن عن فتح المجال لإعادتهم للخدمة من جديد هم ورجالهم.. وتعهد بإعادة ضباط الجيش الجنوبي إلي مناصبهم التي تركوها.. كما سعي إلي حل خلافاته مع لام أكول زعيم الحركة الشعبية للتغيير الديمقراطي.. واتفق معه علي فتح صفحة جديدة للتعاون بينهما.. وتأتي هذه الخطوات أيضا في إطار تخوف سلفا كير من صراع جنوبي - جنوبي كما حدث عامي 1992 و1993 وراح ضحيته 100 ألف قتيل خلال ستة أشهر. اشتعال الجنوب المشكلة الأخطر هنا كما يؤكد صالح محمد - الباحث السياسي والقيادي في الحزب الاتحادي - أن قادة الجنوب يتجهون عمليا نحو الانفصال.. وأعلنوا ذلك صراحة.. وهو ما سيؤثر بالطبع علي الناخبين الجنوبيين وتوجهاتهم نحو الانفصال في استفتاء يناير القادم.. خاصة أن أغلبهم بسطاء يفتقرون إلي الثقافة السياسية.. وعندما يتم الانفصال وهو الاحتمال الأرجح، فلن ينفجر الصراع بين الشمال والجنوب فقط.. بل سيؤدي حتما إلي اشتعال الصراعات في الجنوب ذاته، وستمتد هذه الصراعات حتما - إذا ما وقعت - إلي دول جوار جنوب السودان. وسيتحول الأمر في أسوأ صوره إلي صراع الكل ضد الكل ثمنا لتحقيق حلم قادة الجنوب في إقامة دولتهم.. والسبب في ذلك يرجع إلي أن الجنوب يحمل في داخله كل عوامل الصراع الموجودة في السودان ككل.. فسكان الجنوب لا يجمعهم دين واحد.. أو لغة واحدة.. أو عرق واحد.. فنحو 16% منهم مسيحيون و17% مسلمون و67% منهم وثنيون أو لا دين لهم.. والأخطر أن سكان الجنوب جماعات متفرقة وقبائل شتي منها الدينكا - حوالي ثلاثة ملايين نسمة من إجمالي 8 ملايين نسمة يعيشون في الجنوب - وهي أكبر القبائل هناك، وينتشرون حول مجري النهر وفي مديريات بحر الغزال وأعالي النيل وجنوب كردفان.. وهناك النوير ويتسمون بالعزلة والاستقلالية وينتشرون في إقليم أعالي النيل، ويمتدون إلي داخل الحدود الحبشية.. أما الشلوك فهم أقل المجموعات الثلاث عددا، ويعيشون علي شريط ضيق علي الضفة الغربية للنيل الأبيض تحت قيادة سلطان يجمع بين السلطة الإدارية والروحية.. الأخطر أن قبائل جنوب السودان لا تجمعها لغة واحدة ، حيث يبلغ عدد اللغات واللهجات هناك أكثر من مائتي مجموعة.. والقاسم المشترك بينها هو اللغة العربية الركيكة التي يطلق عليها «عربية جوبا».. وأضاف صالح: لذلك أري أن انفصال الجنوب سيكون بداية لاشتعال الصراعات في داخله وستمتد هذه الصراعات إلي دول الجوار.. ومما يدعم تصور اشتعال الصراعات بعد إعلان الدولة في الجنوب أن الجنوب السوداني لا يملك حتي الآن مؤهلات أو مقومات بناء الدولة.. فالجنوب يفتقر للكوادر الإدارية والخدمات الأساسية ولا يملك حتي البنية التحتية.. وعندما نزور الجنوب الآن سنجد حمي الانفصال عن الشمال وتغلغلا إقليميا ودوليا.. ولن نجد أي مقومات لهذه الدولة. وفي نفس الاتجاه يؤكد د. إبراهيم نصر الدين - أستاذ العلوم السياسية بمعهد الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة - أن انفصال الجنوب السوداني لن يؤدي إلي قيام دولة مستقرة هناك ، بل إن كل حركات التمرد في أثيوبيا منذ ستينيات القرن الماضي كانت كلها تدعو إلي الانفصال.. وكل منها لديه خريطة بحدود دولته.. ومعروف أن في إثيوبيا ست قوميات لكل منها حق تقرير المصير.. وكل منها يسعي للانفصال.. وإذا أعلن انفصال الجنوب السوداني سيتم الإعلان فورا عن قيام خمس دول في الصومال.. وسيمتد خطر الانفصال إلي دولة مثل أوغندا رغم أن حكومتها تؤيد انفصال جنوب السودان.. وسينتشر الصراع في البحيرات العظمي والقرن الإفريقي.. لذلك كان الانفصال غير مقبول بصفة عامة لا عربيا ولا إفريقيا.. وأكد علي ذلك قرار القمة العربية الإفريقية الأولي عام 1964 والذي نص علي احترام الحدود الموروثة من الاستعمار منذ الاستقلال.. وهو ما نص عليه القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي.. والأخطر من هذا كما يؤكد د. إبراهيم أن بعض قادة جنوب السودان يتصورون أن القوي الدولية تساند قيام دولة مستقرة في الجنوب.. وهذا كلام لن يحدث.. لأننا تعلمنا في الستينيات أن وجود حكومات قوية في إفريقيا مفيد للقوي الدولية لأنها تستطيع أن تقيم معها تعاهدات يمكن الالتزام بها.. اليوم تغير هذا الكلام تماما.. لأنه ثبت بالخبرة الإفريقية أن الحروب الأهلية الممتدة.. وحروب الكل ضد الكل أفضل كثيرا للقوي الدولية والشركات عابرة القارات.. لأنه يكفيها أن تمول فصيلا متمردا في إقليم ما مقابل الحصول علي موارد هذا الإقليم سواء كان بترولا أو معادن أو غيرهم - بمساعدة الفصيل الذي يسيطر علي هذا الإقليم ، وذلك بأرخص الأسعار ، ويتم الاستعانة بشركات أمن دولية تحمي مصالح الشركات متعددة الجنسيات.. وانتهي الأمر.. لذلك أقول لكل من يراهن علي قيام دولة مستقرة في جنوب السودان.. آسف لن يحدث هذا.